Close Menu
الساعة الآن 01:34 AM

منتديات ياكويت.

للتسجيل إضغط هنا

الابحاث وتطوير الذات تاريخ, جغرافيا, علم اجتماع, سياسة, اقتصاد واعمال, علم نفس, قانون

إضافة رد

Anwar

:: منسق إداري ::

بحث عن ميكافيلي والميكافيلية

السلام عليكم

[hide]


ميكافيلي والميكافيلية
قاعدة الغاية تبرر الوسيلة مقيدة بضوابط اخلاقية رفيعة

للمؤرخ العراقي د. كمال مظهر


مثلما سلط غاليلو منظاره الي الكواكب، فوجد انها مجبولة من ذات التربة التي تكونت منها الارض، سلط ميكافيلي منظاره الي الملوك، فوجد انهم يتصرفون مثل الوحوش في الغلاة. كلاهما بدأ تاريخا جديدا في مجاله، وكان من اسباب ظهور نظرة جديدة الي الطبيعة والمجتمع. وكلاهما اسيء فهمه واضطهد.
لكن اذا كان غاليلو سرعان ما أعيد اعتباره، فان شيطنة ميكافيلي بقيت خصوصا في اذهان الشرقيين متجسدة كما كانت في اوروبا القرون الماضية.
ولعل المؤرخ العراقي د. كمال مظهر قد اخذ علي عاتقه مهمة استعادة الصورة الحقيقية لميكافيلي في اوساط الرأي العام العربي، من خلال كتابه الموسوم (ميكافيلي والميكافيلية) الذي صدر عن دائرة الشؤون الثقافية والنشر في بغداد عام 1984.

نبذة عن حياة ميكافيلي
ولد نيكولو دي بيرناردو ميكافيلي في 3 أيار (مايو) 1469 بمدينة فلورنسة الواقعة في وسط ايطاليا. وهو ينتمي الي اسرة توسكانية نبيلة عريقة شغل افرادها علي مدي عقود طوال مراكز حساسة، فأصبحوا بحكم ذلك في معمعان الحياة السياسية الفلورنسية النشطة حتي ان عائلة جده الاكبر قد تعرضت للنفي من المدينة من جراء ذلك في العام 1260، وقضي أحد أسلافه نحبه في السجن. وقد تدهور الوضع المالي لأسرة ميكافيلي قبل مجيئه الي الحياة مما ترك بعض الاثر علي تصرفاته كما نلاحظ ذلك فيما بعد.
لقد ترعرع ميكافيلي في كنف السياسة والثقافة. فان والده كان محاميا معروفا، وكانت أمه تقرض الشعر. ومع ان المعلومات فيما يتعلق بالفترة المبكرة لحياة ميكافيلي غير متوفرة بشكل يمكن من خلاله القاء أضواء كافية علي مصادر ثقافته الاولية، الا ان مما لا شك فيه انه تلقي تعليما جيدا بالنسبة لعصره اذ درس القانون والتاريخ (1)، وفي السابعة من عمره بدأ بتعلم اللاتينية (2) ـ لغة العلم والثقافة آنذاك ـ وفي بداية شبابه أظهر ميكافيلي الميل نحو الثقافتين القديمة والحديث، فقرأ خطب الكاتب والخطيب الروماني المعروف شيشرون (106 ـ 43 ق.م.) ودرس مؤلفات ارسطو وتابع باهتمام مؤلفات رائدي النهضة دانتي (1265 ـ 1321) وبترارك (1304 ـ 1374).
الا ان مدرسة ميكافيلي الاساسية كانت شوارع مدينة فلورنسة التي منحت العالم ابرز عباقرة النهضة من امثال دانتي وليوناردو دافنشي وميخائيل انجيلو وغيرهم، فان هذه المدينة تميزت عن غيرها من المدن الايطالية بنشاطها السياسي الواسع الذي لم يقتصر علي النخبة، كما كان عليه الامر في مدينة البندقية المهمة مثلا، بل زاوله كل فلورنسي ففي هذه المدينة كان الجميع ساسة حسب وصف أحد المؤرخين (3). وفعلا شهدت شوارع فلورنسة احداثا سياسية متلاحقة مليئة بالدروس والعبر تركزت في ذاكرة الناس فكانوا يرددونها ويقرنون بها احداثهم الحياتية الخاصة.

أخلاقه
عينان براقتان تنمان عن نظرة ثاقبة معبرة، طول متوسط وشفتان دقيقتان تفصح ابتسامتهما عما كان يجول في أعماق نفسه ـ هكذا تصف المصادر المظهر الخارجي لميكافيلي مستندة في ذلك الي ما كتبه عنه معاصروه والي لوحات بعض رسامي عصر النهضة. وكان يختفي وراء هذا المظهر عالم زاخر مليء بالقيم. فقد عرف ميكافيلي بسرعة البديهة بشكل نادر وبتأثيره علي مستمعيه وباجادته للحديث الجاد والمرح مع مختلف المستويات بدءا بحطابي قريته ومرورا بأمراء ايطاليا وانتهاء بملوك اوروبا، محاولا، في كل الاحوال، ان يكون مرغوبا قريبا الي قلوب الآخرين.
كان ودودا في غاية الاخلاص لأصدقائه، يأتي كل ما في وسعه عملا وقولا، من اجل خيرهم ورفعتهم. وكان بعيدا عن القسوة في حياته ويعطف علي كل ضحية بريئة مما يبدو جليا من رسائله الكثيرة لاصدقائه. أما في صراحته فلم يضاهه احد من اعلام عصره (4). وهو، الي جانب كل ذلك، كان شكوكيا وسواسا. ومع انه قال عن نفسه ذات مرة ولدت فقيرا فتعلمت الحاجة قبل المتعة (5) الا انه عرف الاخيرة في الحياة وفهمها فهما ايطاليا اصيلا. كان يحب الحياة، سخيا لا يعرف للبخل معني، فيصرف علي نفسه وأصدقائه دون تردد (6). ومع انه كان زير نساء وعاشقا للجمال الا انه لم يفقد القيم ابدا ولم يفسح المجال لأمر ما ان يفسد عليه حياته العائلية فأسبغ علي اولاده الستة حنان الاب الرؤوف ومنح زوجته كل رعاية وحب. وجاءت طموحاته الواسعة متوافقة تماما مع عبقريته الفذة وحبه الجم للعمل واسداء الخدمات علي احسن وجه.
جعل كل ذلك نيكولو يبدو غريبا في مجتمع كانت بقايا الفكر الاقطاعي، ولا سيما فرديته ونفاقه، تطغي علي عقول الجانب الاكبر من اصحاب الكلمة والفكر فيه. فقد كان ضعاف النفوس من اقرانه يحسدونه ويحاولون النيل منه عن طريق خلق المشاكل له واشاعة الرذائل عنه والطعن في اخلاصه، فلم يجد من الاصدقاء المخلصين ـ لا سيما بعد نفيه ـ سوي الذين كانوا علي مستوي تفكيره او من كانوا في اخلاقهم ارفع من ان يسمحوا لأنفسهم بالتحلل والانحطاط، ويأتي علي رأسهم المؤرخ المعروف كويجارديني والدبلوماسي الفلورنسي فرانسيسكو فيتوري. وكما يقول عنه المؤرخ. أ. ك. جيفيليكوف انه كان وحيدا لكنه كان ارفع من الآخرين (7).
كان حساد ميكافيلي يأخذون عليه صراحته المطلقة. والواقع انه لم يستطع ان يخفي حبه وامتعاضه عن الآخرين، فكانت ملامح وجهه وابتسامته الساخرة او العطوف تعبر عنهما حتي وان حاول هو اخفاءهما عبثا. لذا فانه بدا شاذا في وسط كان اغلب مثقفيه يتلونون كالحرباء ويتزلفون لكل قوي، مركزا وجاها وان كان الاضعف قيما. وعندما اضطر ان يجاري المنافقين علق بنفسه ساخرا فكتب يقول:
منذ زمن بعيد لا اقول ما افكر فيه ولا افكر مطلقا فيما اقول واذا حدث لي مرة ان اقول الحق فانني اغلفه بغطاء من الاكاذيب بحيث يصعب بلوغ كنهه (8).
وقد اتهموه بالسخرية التي لم تكن، حسب وصف احد المؤرخين الطليان، سوي التعبير الامين عن ايمان شخص كان يثق مخلصا بمنطقه الخاص ، فهو لم يكن يخفي ما كان يخفيه غيره وان اخفي فانه انما كان يخفي من صفاته الجليلة ما جعلت طيبته تبدو للعيان دون حقيقتها (9).
غالبا ما لجأ حساد ميكافيلي الي اساليب وضيعة للنيل منه ولتشويه سمعته. فانهم، اتهموه بالجشع الذي دفعه ـ حسب ادعائهم ـ الي الزواج من ماريا كورسيني طمعا في ثروتها في الوقت الذي بلغت قدسية الرابطة بين الزوجين الحد الذي ظلت فيه وفية له كل الوفاء حتي الرمق الاخير، بحيث اوصي لها في أول وصية له بالصداق الكامل علي ان تنتفع هي وأولادهما فقط بما يترك بعد الموت. وعلي مدي ثلاثة وعشرين عاما ظلت علاقات نيكولو وماريا علي افضل ما يكون. وكما تبين رسائله فانه كان في كل سفرة له يتحرق للعودة سريعا الي اسرته التي كانت تنتظره ايضا بتلهف كبير، ولا سيما زوجته التي كان يسميها مداعبا اياها بـ قائدنا la brigata(10). وبالرغم من نجاحاته المشهودة في حياته العملية فان البعض حاولوا القاء ظلال من الشك عليها، ولا سيما نجاحاته في اعماله الدبلوماسية (11)، غير انها كانت ظلالا باهتة.
ولَّد هذا الموقف غير النبيل من لدن اقرانه ومعارفه، مع مشاكله الخاصة، بعض التشاؤم في نفس ميكافيلي فقد غدا يعتقد ان الحسد غريزة متأصلة في طبيعة الانسان وبأن شيمة الجنس البشري عامة الميل الي التقليل من اعمال بعضهم البعض اكثر من الميل الي اطرائها المطارحات (12) لكن ميكافيلي نفسه لم يكن من الطراز الاخير من الناس لأنه كان مدفوعا دائما بالرغبة الطبيعية في العمل دون اكتراث بأي شيء آخر، لما فيه خير المجموع (المطارحات). لذا كان من المنطق ان يعطي التاريخ حكمه العادل: افلت اسماء حساد ميكافيلي وكأنها لم تكن ليبقي نجمه صاعدا في سماء ايطاليا الصافية واسمه حيا في كل محفل فكري وسياسي. فهو حتي اليوم يتحكم بشكل او بآخر في السياسات من اعماق قبره، وتفرض آراؤه نفسها علي كل مفكر سياسي.
بالرغم من امكاناته وفكره الثاقب فان ميكافيلي لم يحتل في وقت مبكر المكان المرموق اللائق به في جهاز الحكم والوسط السياسي الفلورنسي. والسبب في ذلك يعود بالاساس الي افتقاره للوسيلة، او للوسيط الذي كان بامكانه ايصاله الي مسرح الاحداث. وعندما بلغ اعتاب الاخير كان يبلغ من العمر 29 عاما وقد سبقه الاخرون الي المراكز الحساسة فيه. مع ذلك من الطبيعي ان يثبت نيكولو وجوده ويفرض نفسه بسرعة. فان الرجل، كما ذكر عن نفسه، قد شاء له طالعه ان لا يستطيع الحديث عن فن صناعة الحرير، ولا عن فن نسج الصوف (13)، ولا عن الربح او الخسارة، بل عن موضوع واحد هو قضايا الدولة.. (14). لذا فعندما عهد اليه بمنصب سكرتير مجلس العشرة في تموز (يوليو) 1498، اثر اعلان النظام الجمهوري في فلورنسة، اثبت جدارة فائقة في كل ما قام به بحيث طغي علي الاخرين مباشرة. انه لم يحرر قبل ذلك التاريخ اي تقرير رسمي ولم يخطب في اي مكان، ولكن مع ذلك فان الصياغة الرصينة لأولي كتبه الرسمية تبين وكأن له تجارب السنين المتراكمة في هذا الميدان (15).
ولم تكن مهمته قليلة الشأن، فان مجلس العشرة كان يشرف علي الشؤون العسكرية والعلاقات الخارجية للجمهورية التي عاشت احداثا حاسمة، لا سيما بسبب تشابك علاقات فلورنسة مع حكومات المدن الايطالية وجراء الاطماع الاجنبية في كل البلاد التي تمخضت عنها سلسلة حروب مستمرة اصطدمت فيها مصالح الدولتين الاوروبيتين القويتين اسبانيا وفرنسا. وقد تعزز موقف ميكافيلي اكثر عندما اختير صديقه بييرو سوديريني (Soderini) رئيسا للمجالس فأضحي ضمن واضعي سياسة الجمهورية ومخططيها. ظل ميكافيلي في وظيفته حوالي خمسة عشر عاماً قام خلالها بأربع وعشرين بعثة دبلوماسية هيأت له ظروف الاتصال المباشر بأهم الشخصيات الايطالية والاوروبية يومذاك منهم البابا وملك فرنسا وامبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة. وقد اكتسب ميكافيلي خلال سفراته هذه خبرات واسعة بان وقف عن كثب علي خفايا العلاقات الدولية وأساليب الحكم الاوروبي. فانه زار البلاط الفرنسي وحده اربع مرات استغرقت اشهرا عدة عرف خلالها عادات الفرنسيين ودسائس البلاط وغيرها من مقومات حكمهم مما انعكس، مع تجاربه الاخري، في مؤلفاته بشكل واضح. فخلال سفراته الدبلوماسية ادرك ميكافيلي ان في هذا العالم شيئا يستحق التأمل والتقصي عنه (16).
سقط النظام الجمهوري في فلورنسة عام 1512 وعادت اسرة ميديتشي الي الحكم بفضل القوات الاسبانية الغازية، فالتجأ سوديريني الي الممتلكات العثمانية وهرب آخرون من رجال الحكم، اما ميكافيلي الذي بذل كل ما في وسعه للحيلولة دون سقوط الجمهورية فقد أبعد عن وظيفته. وفي بداية العام 1513اتهم بالاشتراك في مؤامرة استهدفت نظام ميديتشي الارهابي فاعتقل وتعرض للتعذيب ست مرات خلال وجوده في السجن، واخيرا تقرر نفيه الي مسقط رأسه قرية سانتا كروس المجاورة لمدينة فلورنسة.

آراء ميكافيلي السياسية
يمكن الوقوف علي آراء ميكافيلي السياسية من خلال دراسة ثلاثة من اهم مؤلفاته الاربعين ـ الامير و المطارحـــات و فن الحرب مع مجموعة رسائله التي بعثها الي اقـــــرب اصدقائه في ظروف متباينة.
يعتبر الامير من اصغر مؤلفات ميكافيلي حجما واكثرها شهرة (18). ومع ان مؤلفاته الاخري لا تقل خطورة عن الامير الا ان المرء عندما يقرأه يشعر حقا ان السنين الخمس عشرة التي كرسها ميكافيلي لادارة قضايا الحكم لم تذهب سدي كما يقول ذلك بنفسه (19).
بدأ تداول هذا الكتاب بشكل مخطوط في حياته علي نطاق واسع، وقد طبع لأول مرة في العام 1532، اي بعد وفاة صاحبه بخمس سنوات. وسرعان ما ترجم الي جميع اللغات الاوروبية ومن ثم الاخري وأعيد طبعه عشرات المرات، بل واكثر، وحظي بدراسة المئات من المفكرين والساسة والمؤلفين، وهو اليوم يدخل ضمن مواد التدريس في العديد من المؤسسات الاكاديمية المعروفة، منها جامعة اكسفورد والجامعة الامريكية ببيروت وغيرهما. وقد دفع كل ذلك بالمختصين الي اعتبار الامير نتاجا خالدا عن حق من بين نتاجات النهضة الايطالية المعطاة (20).
اعتبر ميكافيلي في البداية، الجمهورية نظاما امثل للحكم. لكن بعد تحليله للاوضاع القائمة في ايطاليا التي كانت في عهده مقسمة علي خمس دول هي مملكة نابولي في الجنوب ودوقية ميلان في الشمال الغربي وجمهورية البندقية الارستقراطية في الشمال الشرقي وجمهورية فلورنسة والدولة البابوية في الوسط، والتي كانت علاقاتها تتسم باستفحال الحروب والخلافات فيما بينها مما جعل كل الوطن هدفا سهلا للغزو الاجنبي المستمر، توصل ميكافيلي في الامير الي الاستنتاج بأن خير نظام يمكنه تحقيق وحدة ايطاليا والذود عنها هو ذلك النظام الذي يستند الي سلطة مركزية دكتاتورية مطلقة قوية لا تقف في سبيلها الاعتبارات الدينية والدنيوية والاخلاقية، فان مصالح الدولة العليا، وبوجه خاص وحدة البلاد، تبرر رأيه لجوء الامير الي جميع السبل كاستخدام القوة التي تشكل ـ كما كان يؤكد ـ اساس الحق، والقسوة والاغتيال وخيانة العهد والقسم والتوسل بالتضليل والرشوة والركون الي الخديعة والكذب والنفاق، اي ان الغايات السامية تبرر الوسائل ايا كانت. وهو كان ينصح الامير بألا يخجل في اختيار اي اسلوب مهما تدني لتحقيق اهدافه وطموحاته السياسية، فالحاكم الناجح هو الذي يلجأ الي الاساليب الانسانية والحيوانية حسب الظروف والحاجة ويعرف كيف يجمع بين خدع الثعالب وفورات الاسود لأن المحك والاساس لتقييم السياسة هو النجاح.
وبالاستناد الي ذلك بشكل مجرد وبفضل انتقاء الحكام من افكار ميكافيلي ما كان يناسبهم حسب طريقة ولا تقربوا الصلاة ظهر فيما بعد مصطلحا الميكافيلية و المكيافيلي ويطلق الأول عادة علي السياسة التي لا تعير القيم الاخلاقية اي اعتبار ويطلق الثاني علي الشخص الذي يتبني مثل تلك السياسة.
ولكن ذلك لا يعدو كونه ذروة المكيافيلية بصورتها المشوهة. فان الرجل لم يطلق آراءه الخطيرة تلك دون ضوابط اخلاقية رفيعة او تفسيرات منطقية تبين الامور علي حقيقتها وتضع السياسة في اطارها الواقعي زمانا ومكانا. فالخير، كل الخير للامير في ان يتظاهر بالرحمة وحفظ الوعد والشعور الانساني النبيل والاخلاص والتدين وان يكون فعلا متصفا بها ولكن عليه ان يعد نفسه عندما تقتضي الضرورة ليكون متصنعا بعكسها ، لذا فان من واجب الامير ان يجعل عقله مستعدا للتكيف مع الرياح، ووفقا لما تمليه اختلافات الجدود والحظوظ وان لا يتنكر لما هو خير، كما قلت، اذا امكنه ذلك، شريطة ان ينزل الاساءة والشر، اذا ما اضطر الي ذلك وضويق (الامير ـ الباب الثامن عشر).
والواقع ان التاريخ لم يعطنا مثلا واحدا لم ينزل فيه الامير، وحتي غير الامير، الاساءة والشر، اذ اما اضطر الي ذلك وضويق ، فهذه حقيقة تكاد تكون سمة ملازمة لطبائع الناس شئنا ام أبينا، اعترفنا ام بررنا. فلا تكمن الخطورة اذن، في هذا الجانب من آراء ميكافيلي الذي رأي مثل غيره ولكنه لم يسكت، علي العكس من غيره. انما تكمن المأساة في ان القيم والضوابط التي أراد ميكافيلي ان يتصف بها الامير في الظروف الاعتيادية ـ الرحمة وحفظ الوعد والشعور الانساني النبيل والاخلاص والتدين ـ اندر في بطون التاريخ من الماء في الصحراء. فلو عمل كل امير بآراء ميكافيلي لتقلصت الصفحات السود في سجل التاريخ الي حد كبير.

الأمير ... الحق
والآن لنمض مع ميكافيلي في كتابه الامير ولنر ما يضع لأميره الجديد من خطوط ودورس. فعلي الامير ان يكون حريصا، علي ان لا يفضح نفسه باقواله وعليه ان يجعل الناس يرون فيه، ويسمعون منه الرحمة مجسدة، والوفاء للعهود والنبل والانسانية والتدين (الامير ـ الباب الثامن عشر). وعليه ان يتجنب كل ما يؤدي الي تعرضه للاحتقار والكراهية ، وهو يتعرض للكراهية اذا اصبح سلابا نهابا، يغتصب ممتلكات رعاياه ونساءهم، وهو ما عليه تجنبه . وقد يعتبر الامير دنيئا حقيرا اذا رأي الناس فيه تقلبه، وتفاهته، وتخنثه، وجبنه، واستخذاءه، وهي امور يجب ان يقي الامير نفسه منها، علي اعتبار انها الصخرة التي تمثل الخطر، وان يدبر امره، بحيث تبدو من اعماله مخائل العظمة والحيوية، والرصانة والجلد . اما بالنسبة الي حكم رعاياه فعلي الامير ان تكون احكامه مبرمة لا تقبل النقض، وان يتمسك بقراراته، فلا يسمح لانسان بخديعته او الاحتيال عليه (الامير ـ الباب التاسع عشر).
وقد استهدف ميكافيلي من هذه الشروط ان يكون الشعب راضيا عن الامير، ورأي في هذا شرطا اساسيا من شروط الحكم الراسخ الناجح. فان رضا الشعب من اهم المواضيع الذي يتحتم علي الامير العناية به ، ذلك لأن علي الامير ان لا يخشي كثيرا من المؤامرات اذا كان الشعب راضيا عنه، اما اذا كان مكروها، ويحس بعداء الشعب له، فان عليه ان يخشي من كل انسان ومن كل شيء ، فالقلاع مهما حصنت لا تحمي الامير فيما لو غض الطرف عن كراهية شعبه (21) او حبه (الامير ـ الباب التاسع عشر والباب العشرون). وأفضل للامير ان يصل دست الحكم بمساندة الشعب من مساعدة النبلاء (الامير ـ الباب التاسع). والامير الذي لا يستطيع كسب شعبه الي جانبه بواسطة المشاريع النافعة له فانه يضطر الي الوقوف دائما وسيفه في يده (الامير ـ الباب الثامن). ومن الضروري جدا ان يكون الامير مثقفا، فعليه ان يقرأ التاريخ وان يدرس اعمال الرجال البارزين، فيري اسلوبهم في الحروب، ويتفحص اسباب انتصاراتهم التي ادت الي الهزائم (الامير ـ الباب الرابع عشر).

رجال الأمير
أراد ميكافيلي من الامير الجديد ان يقيم جهازا متكاملا للادارة، يعهد بشؤونه الي اناس قديرين لا شائبة فيهم، فيضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وعليه ان يظهر نفسه دائما ميالا الي ذوي الكفاءة والجدارة وان يفضل المقتدرين، ويكرم النابغين في كل فن (الامير ـ الباب الواحد والعشرون). وهذه المسألة خطيرة في بابها لأن الانطباع الاول الذي يتولد لدي الانسان عن الامير وعن تفكيره، يكون في رؤية اولئك الذين يحيطون به. فعندما يكونون من الاكفاء والمخلصين، يتأكد الانسان من حكمة الامير، لأنه استطاع تمييز هذه الكفاءة والاحتفاظ بهذا الاخلاص . ويجب الا يكون هؤلاء من المتزلفين والمتملقين والمنافقين المداهنين الذين تغص بهم بلاطات الملوك والامراء (الامير ـ البابان الثاني والعشرون والثالث والعشرون). ولكن علي هؤلاء ان يعلموا جيدا ويدركوا بأن وزنهم انما يعتمد علي الموقف الذي يتبناه الامير في ضوء اخلاصهم وتفانيهم له ولنظامه. وعلي الامير لكي يحتفظ بولاء وزيره واخلاصه، ان يفكر به، وان يغدق عليه المال ومظاهر التكريم، مبديا له العطف، ومانحا اياه الشرف، وعاهدا اليه بالمناصب ذات المسؤولية، بحيث تكون هذه الاموال ومظاهر التكريم، المغدقة عليه كافية، تحول دون ان يطمع بثروات او القاب جديدة، وبحيث تكون المناصب التي يشغلها مهمة الي الحد الذي يخشي عنده علي ضياعها (الاميرـ الباب الثاني والعشرون).
ومن المنطلق نفسه يجب علي الامير ان يختار لمجلسه حكماء الرجال، ويسمح لهؤلاء وحدهم بالحرية بالحديث اليه ومجابهته بالحقائق، علي ان تقتصر هذه الحرية علي المواضيع التي يسألهم عنها، ولا تتعداها. ولكن عليه ان يسألهم عن كل شيء وان يستمع الي آرائهم في كل شيء، وان يفكر في الموضوع بعد ذلك بطريقته الخاصة. وعليه ان يتصرف في هذه المجالس، ومع كل مستشاريه، بشكل يجعل كل واحد منهم واثقا من انه كلما تكلم بصراحة واخلاص، كان الامير راضيا عنه. وعليه بعد ذلك ان لا يستمع الي اي انسان، بل يدرس الموضوع بنفسه في ضوء آراء مستشاريه، ويتخذ قراراته التي لا يتراجع عنها . ولا بد للامير الحديث ان يقبل النصيحة دائما. ولكن عندما يريد هو، لا عندما يريد الاخرون، بل عليه ان لا يشجع مطلقا المحاولات لاسداء النصيحة اليه، الا اذا طلبها. ولكن عليه ان يكثر من سؤالها وان يحسن الاصغاء الي الحقائق التي تسرد عليه عندما يسأل عنها (الامير ـ الباب الثالث والعشرون). ومع ذلك عليه ان يكون حذرا في تصديق ما يقال له، وفي العمل ايضا، دون ان يخشي ظله .

ضوابط ثابتة
وعلي الامير ان يضع لكل شيء ضوابط ثابتة مع مراعاة الحاجات والظروف دائما. فللسخاء والبخل حدودهما، وللطيبة مداها الذي يجب ان ينتهي قطعا عند الاصطدام بمصالح الدولة. فمن الضروري لكل امير يرغب في الحفاظ علي نفسه ان يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وان يستخدم هذه المعرفة او لا يستخدمها، وفقا لضرورات الحالات التي يواجهها (الامير ـ الباب الخامس عشر). ولكن عليه ان يحاول حصر هذا الابتعاد الاضطراري الي أقصي حد وينتهي مع ضمان الاستقرار والامن ، بل يستبدل في الحال بتدابير نافعة للرعايا الي اقصي حد ممكن (الامير ـ الباب الثامن).
كرر ميكافيلي الافكار نفسها بعمق اكبر في كتابه الآخر المطارحات الذي قضي حوالي خمسة اعوام في تأليفه جامعا فيه آراءه في السياسة وأصول الحكم والاخلاق والعلاقات الدولية وغيرها مستندا في تقييماته الي تجارب روما القديمة. واهم ما يستخلصه قارئ المطارحات (22) هو ان الفضيلة المثلي لكل مواطن تقاس بمدي تكريس ذاته لخدمة الصالح العام. ويحسن المرء في المطارحات ، كما في الامير ، بجدية ميكافيلي في البحث عن النظام الامثل الذي كان يحلم باقامته في ايطاليا. فلا ريب في انها حكومة سعيدة تلك الحكومة الشعبية التي تخرج رجلا حكيما يستطيع الناس الحياة بأمن ودعة في ظل القوانين التي يضعها لها والتي لا يضطرون الي تقويمها (المطارحات، الكتاب الاول ـ 2) ومرة اخري نري الامير الانموذج في المطارحات هو ذلك الذي يجعل من الشعب كله صديقا له (المطارحات، الكتاب الاول ـ 40). بل ان ميكافيلي يذهب هنا الي مدي ابعد مما جاء في الامير بصدد موقع الشعب من السلطة. فان الرجل العاقل لا يتجاهل الرأي العام بالنسبة الي المسائل المعينة والجزئية، كمسألة توزيع المناصب والافضليات والترقيات، اذ ان الشعب هنا، عندما يترك الي نفسه، لا يخطئ ابدا، واذا ما اخطأ احيانا، تكون اخطاؤه نادرة اذا ما قورنت بالاخطاء التي ستقع حتما لو ان القلة هي التي قامت بمثل هذا التوزيع (المطارحات، الكتاب الاول ـ 47).
وفي المطارحات يشدد ميكافيلي من جديد علي ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والاستفادة الي اقصي حد من الكفاءات والعبقريات الشابة فعندما يتميز شاب بالفضيلة التي رافقت عملا عظيما من اعماله، يغدو موضع حديث الجميع، فان من العار كل العار ان لا تنتفع الدولة من خدماته، وان يضطر هذا الشاب الي الانتظار حتي يكبر سنه، في غضون ذلك قد فقد ما يميزه من نشاط عقلي ومن سرعة في العمل، كان في وسع بلاده ان تستغلهما في الوقت المناسب استغالا نافعا (المطارحات، الكتاب الاول ـ 60).

لماذا وكيف شوهت سمعة ميكافيلي؟
نجم تشويه سمعة ميكافيلي عن عوامل ومنطلقات متباينة نحاول حصرها ملخصة في النقاط الرئيسية التالية:

1ـ الحسد:
كان لنيكولو، كمفكر عظيم، العديد من الحساد الذين حاولوا النيل منه بأحط الأساليب وأشدها مكرا. كان هؤلاء يختلقون الثغرات للنفوذ من خلالها إلي هدفهم غير النبيل. وهو، مع ذلك، لم يساوم ضعاف النفوس، بل ظل ينظر إليهم من فوق برج أفكاره وثقته الكبيرة بنفسه فيراهم أقزاما تحت قدميه لا يستحقون سوي الإشفاق لما في نفوسهم من مرض متأصل. وظل، مع كل سوءات هؤلاء، يحفظ في قلبه الكبير ما كان يعرفه من أدق أسرارهم ونقاط ضعفهم، بل كان يحاول أن يسدي لهم الخدمات كلما وجد إلي ذلك سبيلا.
والغريب أن نيكولو لم ينج حتى من بعض الطعنات الخفيفة من اقرب أصدقائه الحميمين. فان كويجارديني الذي كان ـ حسب وصف احد المؤرخين ـ ميكافيليا في حياته أكثر من ميكافيلي (27) ينتقد ما سماه بقسوة ميكافيلي في بعض آرائه مع أن هناك تطابقا كبيرا بين أفكار مؤرخي عصر النهضة ميكافيلي وكويجارديني، وفي كل اختلاف بينهما يميل الميزان إلي جانب الأول بشكل ملموس. ففي رأي كويجارديني أن ميكافيلي اخطأ عندما اعتقد بأن جميع مآسي ايطاليا السياسية وليدة انقسامها لأن ذلك الانقسام، كما يري هو، أدي إلي أن تظهر في ايطاليا كل هذه المدن المزدهرة التي ما كان في الإمكان أن يوجد مثلها في دولة موحدة ، لذا فان وجود نظام ملكي موحد كان يتحول إلي سبب لبؤس ايطاليا أكثر من رخائها (28).
أما صديقة الآخر فرانسيسكو فيتوري فانه كان في وسعه أن يسدي لنيكولو خدمات أكثر مما فعل، وذلك لما كان يتمتع به من موقع دبلوماسي مرموق في روما حيث النشاط السياسي والديني الواسع كمركز للبابوية والكنيسة الكاثوليكية، بينما أن الخدمات التي قدمها فيتوري إلي صاحبه ميكافيلي كانت محدودة لا تتناسب مع نفوذه الكبير.

2 ـ الكنيسة:
كان لموقف الكنيسة التأثير الأكبر في تشويه سمعة ميكافيلي. ولكي نفهم أبعاد هذا الموقف بشكل أوضح يجدر بنا أن نتطرق أولا إلي موقف ميكافيلي من الكنيسة وكل النظام الإقطاعي السائد بشكل عام. ومع انه ركز علي الكنيسة أكثر، إلا انه تناول في الوقت نفسه جوانب معينة من المجتمع الإقطاعي الذي هبط في عهده إلي أحط درك له فتحول إلي عائق رئيسي أمام التطور الطبيعي للمجتمعات الأوروبية. وقد حلل ميكافيلي هذا الواقع بأسلوب عبقري متوافق كليا مع طبيعة المرحلة التاريخية التي كانت تتطلب من الناحية السياسية إقامة أنظمة حكم مطلق من شأنها وضع نهاية للتسيب الإقطاعي السائد. وهنا نكتفي بإيراد مثل معبر واحد من المطارحات . فقد ذكر في القسم الخامس والخمسين من الكتاب الأول ما نصه:
إنني اسمي نبيلا كل الذين يعيشون في البطالة، ومما تعطيهم أرضهم دون أن يأتوا الزراعة أو أي عمل آخر. ومثل هؤلاء الناس وباء في كل مدينة، ولعل الأسوأ منهم هم أولئك الذين يملكون بالإضافة إلي إقطاعياتهم قلاعا تحت تصرفهم، وإتباعا يخضعون لهم. وهناك الكثيرون من أفراد هاتين الفئتين من الناس في مملكة نابولي، وفي الممتلكات البابوية وفي رومانا ولومبارديا ـ ولا ريب في أن هذا هو السبب الذي حال دون ظهور أية جمهورية أو حياة سياسية في هذه المناطق، فان الذين يولدون في مثل هذه الأوضاع يكونون شديدي العداء لأي شكل من أشكال الحكم المدني الحر. ولا يمكن لأية محاولة لإقامة جمهورية أن تكلل بالنجاح في مقاطعات منظمة علي هذا النحو. وإذا ما رغب إنسان في إعادة تنظيمها، فان السبيل الوحيد أمامه هو أن يقيم فيها نظاما ملكيا. والسبب في ذلك هو انه عندما يكون الجوهر علي هذا النحو من الفساد فان القوانين لا تكفي للحفاظ عليه واستبقائه، ومن الضروري أن تكون هناك بالإضافة إلي القوانين قوة عليا، كتلك التي تكون للملك عادة، تملك من السلطان المطلق والطاغي ما يمكنها من وقف أي تطرف أو مغالاة ينبعان من الطموح، ومن الإجراءات الفاسدة لذوي الحول والطول .
وقف ميكافيلي بشدة ضد تعاليم الكنيسة الكاثوليكية التي اعتبرها عبئا يحول دون الإبداع النشط للإنسان. ولم يكن ذلك سوي تعبير أمين عن روح العصر ومهماته التقي في خطوطه الأساسية مع آراء ابرز مفكري أوروبا يومذاك، بمن فيهم اشد الناس حرصا علي المسيحية ووحدة الكنيسة من قبيل ارازمس الروتردامي وتوماس مور (29)، بل مع آراء زعماء حركة الإصلاح الديني التي انفجرت بقوة في ألمانيا المجاورة قبل موت ميكافيلي بحوالي عقد واحد من الزمان فقط. ولكن جاء تعبير ميكافيلي في هذا الصدد اقوي من غيره وأمر. فهل من قول أبلغ، وهل من خيبة أعمق من هذا الذي قاله نيكولو بتهكم لا يخلو من ألم عميق؟!
إن أول ما ندين به نحن الايطاليين للكنيسة ورجالها، هو أننا صرنا ملحدين ومنحرفين (المطارحات، الكتاب الأول ـ 12)، وهو نفس ما كان يؤكد عليه زعيم حركة الإصلاح الديني مارتن لوثر.
إن ميكافيلي الذي وضع وحدة ايطاليا فوق أي اعتبار ما كان يستطيع أن لا يعطي رأيه صريحا في موقف الكنيسة السلبي بهذا الشأن. فلنستمع إلي ما يقوله حول هذا الموضوع الحساس بانتباه:
إننا ندين للكنيسة ورجالها بشيء أعظم، ولعله هو السبب الثاني فيما الحق بنا من خراب فالكنيسة هي التي جزأت ايطاليا وما زالت تحافظ علي تجزئتها. ومن الحق أن يقال، إن أي بلاد لا تشعر بنعمة الوحدة وبالسعادة، إلا إذا كانت كلها تحت سيطرة حكم جمهوري واحد أو أمير، كما هي الحالة في فرنسا واسبانيا. ولا ريب في أن السبب في عدم وجود مثل هذا الوضع، أي الجمهورية الواحدة أو الإمارة الواحدة في ايطاليا كلها، يعود حتما وإطلاقا للكنيسة. إذ علي الرغم من وجود مقر للكنيسة في ايطاليا، ومن وجود سلطانها الدنيوي فيها، فان سلطانها هذا أو فضيلتها لم يكونا في يوم ما من القوة بحيث يمكنانها من إخضاع الطغاة الايطاليين لحكمها، ومن إعلان نفسها أميرة عليهم جميعا، كما أنها لم تكن من الناحية الاخرى في يوم من الأيام علي ذلك النحو من الضعف الذي لا يمكنها عندما تخشي ضياع سيطرتها علي الأمور الدنيوية، من دعوة احدي الدول الأجنبية للدفاع عنها ضد تلك الدولة الايطالية التي غدت قوية أكثر مما تريد هي لها.. وهكذا فان الكنيسة كانت السبب في الحيلولة دون وجود ايطاليا تحت حكم رأس واحد، وجعلها موزعة بين عدد من الأمراء والسادة الذين جاؤوا لها بالفرقة والضعف حتى أنها غدت فريسة لا للأقوياء من البرابرة (23) فحسب بل لكل من يهاجمها. وعلينا نحن الايطاليين أن نشكر الكنيسة، دون غيرها، علي هذا الوضع السيئ (المطارحات، الكتاب الأول ـ 12).
إذن إن السبب الأساسي لمعاداة ميكافيلي للكنيسة الكاثوليكية يكمن في تحول هذه الأخيرة إلي حجر عثرة أمام تحقيق حلمه الأكبر في أن يري الوطن موحدا، معززا، مكرما. فان البابوات، حسب تحليله الصحيح، كانوا اضعف من أن يحققوا الوحدة الايطالية من جانب، وكانوا لا يرغبون في أن يقوم احد غيرهم بذلك من جانب آخر. ولكي نفهم مدي عمق هذا التحليل الميكافيلي علينا أن نتذكر موقف الكنيسة إزاء قضية الوحدة الايطالية علي مدي أربعة قرون اتبعت القنبلة التي فجرها ميكافيلي بكل جرأة وصراحة دون أن يلجأ إلي الخيال والعالم الثاني كما فعل دانتي (24) أو يعرض أفكاره علي لسان الأقدمين كما فعل بترارك (25). فان البابوية ظلت تعارض الوحدة الايطالية بكل ما توفر لديها من أسباب. وعندما تحقق حلم الطليان الأكبر في العام 1870رفض البابا الاعتراف بحكومة ايطاليا الموحدة وعارض بشدة انضمام روما إليها واعتبر نفسه سجين فاتيكان وظل هكذا لغاية العام 1929 عندما تم الاتفاق بين موسوليني والبابا بموجب معاهدة خاصة اقر الأول فيها استقلال الفاتيكان واعترف الثاني بايطاليا موحدة.
وما يجدر بالذكر هنا أن ميكافيلي وقف بفكره الثاقب عن كثب علي مساوئ الكنيسة وما كان يتخبط فيه رجالها. فقد أوفد أيام الجمهورية بعثتين إلي روما اطلع خلالهما علي أسلوب حياة الاكليروس والرشوة السائدة بينهم فاقتنع أكثر بفساد الجهاز الكنسي وابتعاده الكلي عن الروح الأصيلة للديانة المسيحية.
جاء رد الفعل البابوي علي موقف ميكافيلي قويا وقاسيا في آن واحد. ففي العام 1557 قام الجزويت (26)، المتعصبون للكنيسة الكاثوليكية، بحرق جميع مؤلفات ميكافيلي. وفي الحال قررت محاكم التفتيش حرمان تداول تلك المؤلفات التي أدخلت جميعها في قائمة الكتب الممنوعة وأقر مجلس ترانت الكنسي ذلك. وفي العام 1559 أصدرت الكنيسة قرارا يقضي بحرق نموذج effigie ميكافيلي علنا، بينما طبعت روما مؤلفاته وعرضت مسرحياته الكوميدية بحضور البابا نفسه قبل ذلك بحوالي ربع قرن فقط (27). كما أن كتابه الشامل تاريخ فلورنسة الذي يقع في ثمانية مجلدات وكرس في الواقع لمجمل تاريخ ايطاليا السياسي ويعتبر بحكم تعمقه في تقييم الأحداث التاريخية ومن حيث أسلوبه الدرامي وقوة لغته واحدا من أعظم مكاسب الدراسات التاريخية الحديثة (28)، والذي لم يفقد أهميته حتى يومنا هذا، كان ميكافيلي قد ألفه بناء علي طلب شخصي من البابا كليمنت السابع وقدمه أليه بنفسه.

متملق؟
بعد ذلك بدأت حملة إعلامية منظمة ضد ميكافيلي تصدرها المؤلفون والمؤرخون الجزويت المتعصبون. وقد وضع هؤلاء جانبا المئات من نقاط القوة في مؤلفات وآراء ومواقف ميكافيلي وبدءوا يتمسكون بالبعض من أفكاره وأعماله بشكل مجرد فيرسمون صورة مزيفة لا تنطبق علي واقع الرجل مهما حاولوا وتفننوا. فأنهم اخذوا عليه، مثلا، إهداءه لكتابه الأمير إلي جوليانو (فيما بعد لورينزو) ميديتشي، واعتبروا ذلك بمثابة محاولة لتضليل أسرة ميديتشي اثر عودتها للحكم (29). ويوجد مؤلفون معاصرون يقيمون موضوع الإهداء من نفس الزاوية الجزويتية (30). في الواقع لا ينكر أن ميكافيلي كان يرغب في العودة إلي المسرح ويبحث عن عمل من شأنه أن يخفف من ضائقته المالية، وليس في ذلك ادني ما يؤخذ عليه. ومن الإجحاف أصلا تجريد نيكولو من دوافعه كانسان في مجتمع كان لذئاب البشر وثعالبه دورهم الكبير فيه، وكان للموقع والجاه سحرهما في نظر الجميع من خواص وعوام. ولكن المسألة تتعدي هذه الناحية الإنسانية المجردة. فان لورينزو ميديتشي كان يحمل فعلا من الصفات والإمكانات ما كان بإمكانها أن تجعل منه شخصية بارزة، فهو كان من النوع الذي يستطيع اتخاذ القرارات وحسمها، وتبني ما ورد في الأمير من سياسات كان من شأنها إنقاذ ايطاليا وتحقيق وحدتها (31)، وكان يكفي ذلك بالنسبة لميكافيلي لكي يري فيه أميرا أنموذجا.
مع ذلك تبقي نقطتان مهمتان من شأنهما إلقاء ضوء اسطع علي هذا الموضوع. فان نفس ميكافيلي الذي اتهم بالتزلف بسبب إهدائه كتابه الأمير رفض رفضا قاطعا أن يخدم البرابرة الأجانب في وقت كان الآخرون فيه يتمسحون بأعتابهم. ولندع الرجل يحدثنا شخصيا عن هذا الأمر الذي أثيرت حوله عاصفة مصطنعة هوجاء انه وبكل بساطة يقول:
إنني لا ارفض عملا ولا أرد أبدا أيا من أوامر الجمهورية حيثما أستطيع أن أكون مفيدا، وهذا هو ما افعله إن لم يكن بعلمي فبخطبي، وان لم يكن بخطبي فبمشاريعي... (32). إذن كان نيكولو مستعدا لخدمة بلاده بإخلاص. ولكن ظل مرفوع الرأس حتى في أحرج اللحظات، ولم يرغب أن يعمل إلا حيثما يكون مفيدا . فبعد عشر سنوات من النفي رفض هذا المتزلف قبول منصب سكرتارية مربح لأحد الكرادلة في روما، بسبب عدم تحمله لمواقف البابوية.
هنا يفرض سؤال منطقي نفسه علي المؤرخ بإلحاح: الم يكن من الأفضل بالنسبة لميكافيلي المتمكن، لو كان يرغب التودد فعلا، أن يحاول التقرب من الذين كان مصير كل ايطاليا، لا ايطالي واحد مثله، بين أيديهم، واقصد بهم الغزاة الأجانب وأصحاب الكلمة في روما الذين صب هو جام غضبه عليهم دون مواربة أو مساومة. ومن المهم أن نلاحظ إن اتخاذ مثل هذا الموقف من جانب المفكرين الطليان لم يكن نادرا في ظروفهم الصعبة للغاية. فان معاصر ميكافيلي، مفخرة ايطاليا والإنسانية ليوناردو دافنتشي (1452 ـ 1519) اضطر إلي أن يلجأ في أواخر حياته إلي الملك الفرنسي فرانسوا الأول وان يقضي السنوات الخمس الأخيرة من عمره في صحبته وفي قصر مجاور لقصره دون أن يتحول ذلك إلي لطخة ولو صغيرة بالنسبة لحياة ذلك العبقري وتاريخه. كما أن المفكر الاشتراكي المثالي الايطالي كامبانيللا (1568ـ 1639) الذي تحمل تعذيب محاكم التفتيش والسجن علي مدي 33عاما دون أن يساوم، لجأ أخيرا إلي ريشيليو الفرنسي وتمتع برعايته. ودون شك كان في وسع ميكافيلي لو أراد، أن يفعل مثلما فعلوا وان ينال أكثر مما نالوا، إلا انه لم يفعل. فقد رفض هذا المتزلف بكل إباء العمل في البلاط الفرنسي، ولنستمع مرة اخري إلي ما يقوله بنفسه وبأسلوبه الساخر حول هذا الموضوع: أفضل الموت جوعا في فلورنسا علي تخمة المعدة في فونتينبلو (33) (34).

سيزار بورجيا
انتقد المؤلفون الأوائل، ومنهم الجزويت بشكل خاص، ميكافيلي لاختياره سيزار بورجيا مثلا يحتذي به وذلك في كتابه الأمير . وهنا أيضا لم يأت اختيار ميكافيلي اعتباطا. فان سيزار بورجيا ابن للبابا الكسندر السادس المنتمي الي أسرة بورجيا المعروفة (35) وقد زاره ميكافيلي ثلاث مرات بمهمات دبلوماسية، فعرفه عن كثب وانتقد في تقاريره تصرفاته بشدة واعتبره عدوا لدودا لفلورنسة (36). إلا انه من خلال مراقبته الدقيقة لسياسته على مدي اشهر طوال اقتنع بأن بوسع أساليب هذا إنقاذ ايطاليا من محنها، فأثر فيه أكثر من أي سياسي آخر التقي به أو قرأ عنه (37). وكان المهم بالنسبة لميكافيلي أن سيزار بورجيا حاول بشتى الأساليب وبإصرار إقامة حكومة مركزية موحدة قوية تحكم مناطق واسعة في وسط ايطاليا، كخطوة على طريق توحيد كل البلاد. وقد أعجب ميكافيلي كثيرا بموقف سيزار من جيش المرتزقة ومحاولته الاعتماد على تجنيد أبناء ايطاليا أنفسهم وتنازله عن لقب الكاردينال الديني الرفيع من اجل تحقيق أهدافه السياسية. ومن الجدير بالذكر إن ليوناردو دافنتشي كان من بين الذين تعاونوا بإخلاص مع سيزار بورجيا الذي تردد ميكافيلي في البداية كثيرا في الاتصال به. وبغض النظر عن مدي نجاح ميكافيلي في انتخابه للبطل فان حقيقة واحدة يجب أن تسجل في هذا المجال هي أن اسم سيزار دخل الأمير بعد أن انقضي زهاء ستة أعوام علي موته وزوال دور أسرته عن المسرح السياسي الايطالي مما يضفي علي اختياره طابعا موضوعيا واضحا.
والغريب جدا أن يتمسك ناقدو ميكافيلي بمثالب سيزار بورجيا ويتجاهلوا كليا حلمه (حلم ميكافيلي) الرفيع في أن يظهر عبقري ايطالي ينتشل بلاده من التمزق والاحتلال فيقيم نظاما جديدا يضفي عليه الفخار وعلي جماهير الشعب الخير والسعادة . فان ايطاليا التي غدت بلا حياة تتطلع، كما يري نيكولو بإخلاص، الي ذلك الإنسان الذي يمكن له أن يداوي جراحها ويضع نهاية لدمار لومبارديا ونهبها وللجشع والاغتصاب البارزين في مملكة نابولي وتوسكانيا، وان يشفي بثورها المتقيحة منذ أمد طويل. وها هي ايطاليا تبتهل الي الله في كل يوم أن يبعث إليها من ينقذها من هذه الفظاظة البربرية والحمق الاعمي. إنها علي استعداد للحاق بكل راية وتواقة لذلك، شريطة أن يكون هناك من يحملها ويرفعها . وإذا قدر لايطاليا أن تعثر علي مثل هذا الأمير المحرر المنقذ فانه ليصعب وصف ما سيلقاه من حب في جميع المقاطعات التي عانت الويلات تحت نير الغزوات الأجنبية، ولا ما سيجده من تعطش للثأر، وإيمان ثابت، وولاء أكيد، ودموع الشكر والعرفان. إن الأبواب ستفتح جميعها علي مصا ريعها أمامه، وان الشعب بأسره سيقابله بالطاعة والولاء، ولن يجد من يحسده، ولن يتأخر ايطالي واحد عن الانضواء تحت لوائه. فهذه السيطرة البربرية تزكم انف كل إنسان (الأمير، الباب السادس والعشرون).

ليس متدينا ولا ملحدا
لم يكتف نقاد ميكافيلي بكل ما سبق، بل أنهم حاولوا كذلك تشويه موقفه من الدين، وتمكنوا من خلال ذلك من الضرب بشدة علي وتر عاطفي حساس لدي بسطاء الناس بشكل خاص وذلك بتصويرهم إياه مارقا ملحدا بينما لم تتعد جريرة نيكولو في هذا المجال حقيقة انه أراد أن تكون القضايا الروحية ذات مضمون سياسي تكرس لبناء حياة الأمة ولخدمة الدولة (38). ثم انه كان يري إن إصلاح الدولة لا ينشأ عن تغيير في النفوس، وإنما عن تغيير في المؤسسات. لذا نراه يعالج لا الدين وحده، بل كل العلاقات التي تنشأ بين الناس كالحب والحقد والفن وكل مظاهر الحياة نفسها، من حيث الدور الذي تلعبه في المجتمع.
صحيح إن نيكولو لم يكن متدينا، إلا انه لم يكن ملحدا كذلك، بل كان ـ كما تؤكد بعض المصادر ـ يحيا حسب التقاليد الدينية الامتثالية (39). وقد كان يكن احتراما عميقا لمؤسسي الأديان الذين يستحقون، في نظره، الإعجاب أكثر من مؤسسي الدول (40). شوه الجزويتيون، وغيرهم، موقف ميكافيلي من الفضيلة والقسوة بأسلوب بعيد عن كل القيم الموضوعية. فأنهم تجاهلوا، كما ذكرنا، الضوابط الكثيرة التي شدد عليها ميكافيلي في جميع مؤلفاته تقريبا، وغضوا الطرف عن تأكيده الصريح في المطارحات أن انتصار الرومان وازدهارهم إنما نجم الي حد كبير عن تمسكهم بالفضائل (41). ثم ان هؤلاء في تقييمهم لهذا الجانب من أفكار ميكافيلي يتناسون عن قصد ملموس انه لم يدرس أعمال الناس الاعتياديين، بل مهمات الحكام ممن تقع علي عاتقهم مسؤوليات كبيرة ومعقدة تتطلب أول ما تتطلب فهم الأشياء علي حقيقتها ووضع العواطف جانبا في سبيل انجازها الأمثل. وقد فسر نيكولو هذا الواقع بشكل معبر وواضح: أما الذين لا يستطيعون عند الضرورة وفي سبيل المصلحة العامة الخروج علي القيم فان عليهم أن يزاولوا أي شيء سوي السياسة التي اعتبرها شكلا من أشكال النشاط الإنساني الذي لا يخضع لأية شروط أو دوافع روحية أو ذات طابع أدبي ، وهي بذلك تختلف عن جميع النشاطات الإنسانية الاخري (42). وعلي هذا الأساس يكون ميكافيلي أول من وضع الصياغة الحديثة لمفهوم الدولة.
والي جانب الضوابط التي تطرقنا إليها مرارا فان ميكافيلي تمسك كليا بأرفع الفضائل في العلائق الطبيعية بين الناس. فمما ورد علي لسانه في الأمير انه لا يمكن لنا أن نطلق صفة الفضيلة علي من يقتل مواطنيه، ويخون أصدقاءه، ويتنكر لعهوده، ويتخلى عن الرحمة والدين. وقد يستطيع المرء بواسطة مثل هذه الوسائل أن يصل الي السلطان، لكنه لن يبلغ المجد عن طريقها (الأمير، الباب الثامن). وان الصداقة التي تقوم علي أساس الشراء، لا علي أساس نيل الروح وعظمتها، هي صداقة زائفة تشري بالمال ولا تكون أمينة موثوقة، وهي عرضة لأن توقدها في أول مناسبة (الأمير، الباب السابع عشر).

علي الطبيعة
أما الأمير فان عليه أن يكون من الفطنة بحيث يلجأ إلى السبل الشريرة، عندما ترغمه الضرورة علي ذلك ولكن شريطة ألاّ ينحرف عن طريق الخير ما دام في استطاعته المضي فيه . وفي كل الأحوال يبقي منطلق ميكافيلي في تقييماته هذه سياسيا صرفا. فقد لا يكون ما يبدو فضيلة من الفضائل دائما لأنها قد تجلب الدمار ، وان ما يبدو رذيلة في المنظور الاعتيادي قد لا يكون كذلك في المنظور السياسي خاصة إذا أدى إلى ضمان الأمن والاستقرار والنجاح . وعلي الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة عمل الحيوان، أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ أن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الشراك، والثعلب نفسه أمام الذئاب. ولذا يتعين عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسدا ليرهب الذئاب (الأمير، الباب الثامن عشر).
من كل ما سبق يبدو رأي ميكافيلي جليا، واضحا: في وسع المرء أن يبقي بعيدا عن عالم السياسة فيتصرف، بل يجب أن يتصرف آنذاك حسب المقاييس الأخلاقية الرفيعة دون أن يحيد عنها. أما إذا دخل حومة السياسة فما عليه إلا أن يتصرف علي ضوء قوانينها. ولكن حتى هنا لم يطالب ميكافيلي أميره الحديث بان يأتي بشيء لم يكن قد حدث مثيله مرارا. انه لم يفسد حكام أوروبا كما يدعون، بل فسر أعمالهم علي الطبيعة بكل بساطة (43)، أو بتعبير أدق انه لم ينظر إلى الإنسان، حاكما أو محكوما، كما يجب أن يكون بل نظر إليه كما هو عليه. ففي الأمير ، الذي يدان أكثر من مؤلفاته الأخرى، نفس الصورة القاتمة للواقع الاجتماعي الذي أشار إليه المئات من الفلاسفة والمفكرين الآخرين قبل ميكافيلي وبعده.
ثم أن العصر الذي عاش فيه نيكولو كان عصر المناورات والإرهاب الذي امتد إلى كل ركن من أركان أوروبا الدينية والدنيوية والي شرقنا كذلك. فقبل أن يظهر ميكافيلي بقرون عدة اتبع الملك الألماني اوتو الأول (912 ـ 973) جميع تعاليم ميكافيلي في تعامله مع النبلاء والعشائر والدين داخل مملكته وفي المناطق التي كان يفتحها. وإذا كان بطل ميكافيلي سيزار بورجيا قد زوج شقيقته ثلاث مرات لأهداف سياسية صرفه فان اوتو تزوج قبل ذلك بأكثر من خمسمائة سنة من أرملة الملك الايطالي لمجرد نيل لقب ملك ايطاليا. وانه نظم ـ بحجة إرجاع البابا إلى كرسيه بعد طرده من قبل سكان روما ـ حملة علي هذه المدينة وأعاد البابا المطرود ليتحول منذ تلك اللحظة إلى بيدق في يده يحركه لأغراضه السياسية كيفما يشاء. فقام في العام 962 بمنح اوتو تاج الإمبراطورية مما شكل بداية لظهور الإمبراطورية الرومانية المقدسة. ولم تختلف سياسة الملك الألماني الآخر وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة فردريك بارباروسا (1125 ـ 1190) عن سياسة سلفه إلاّ في بعض التفاصيل. وقد حول الملك الفرنسي شارل الكبير (شارلمان 742 ـ 814) المسيحية إلى وسيلة لترسيخ مملكته الواسعة بالأسلوب الذي اعتبره ميكافيلي أنموذجا رائعا بعد مرور ما لا يقل عن سبعمائة عام.
أما في عصر ميكافيلي حيث تحولت القوة والدهاء إلى مفاتيح النجاح فأطلق عليه اسم عصر الغش والمغامرات (44) فان إقطاعيي ألمانيا لم يطلعوا علي الأمير عندما اغرقوا باسم الدين الحركة الفلاحية الكبرى (1524 ـ 1525) في بحر من الدم فقتلوا ما لا يقل عن مئة ألف نفس كانت جريرتها الكبرى أنها تجرأت فطالبت بالتخفيف عن وضعها البائس. والعديد من البابوات في عهده أو قبله وبعده لم يعرفوا غير المناورات والقسوة أسلوبا في التعامل.
وفي الإمكان إيراد عشرات الأمثلة الميكافيلية الأخرى من التاريخ الأوروبي السابق لميكافيلي. وان مؤسسة الجزويت (45) المتعصبة للكثلكة والتي تتحمل الجانب الأكبر من وزر تشويه سمعة ميكافيلي متهمة بالميكافيلية أكثر من غيرها، فإنها تبنت منذ تأسيسها في العام 1534 شعار الغاية تبرر الوسيلة مهما تكن .

سليم الأول.. المرعب
وفي الشرق اتبع معظم سلاطين آل عثمان تعاليم ميكافيلي بشكل مشوه دون أن يسمعوا باسمه أو اسم أميره. فان سليم الأول، مثلا، خلع والده بايزيد الثاني عن العرش بمساعدة الانكشاريين في العام 1512 ولبي كابن بار طلب والده بالسماح له بالانتقال إلى مسقط رأسه، بل بلغ به الوفاء له أن ودعه حتى أسوار عاصمة ملكه ليوافيه الأجل بعد يوم أو يومين فقط!. ولم يكتف سليم بذلك بل انه قضي علي جميع إخوته الكبار وأولادهم عن بكرة أبيهم بحجة ضمان امن ملكه. وبضربة واحدة أتى علي حياة أربعين ألف إنسان بريء في الأناضول بعد أن استصدر فتوى من شيخ الإسلام تجيز فعلته النكراء. فاستحق سليم عن حق لقب ياوز، أي المرعب أو الرهيب. وقد دبرت دسائس الحريم أن يصبح سليم الثاني، السكير العربيد واقل أبناء سليمان القانوني كفاءة، وريثا لعرش والده الذي لقب عن جدارة بالقانوني في الشرق والعظيم في الغرب. أما مراد الثالث فقد دشن عهده بقتل إخوته الخمسة في العام 1574. وأثبت ابنه محمد الثالث جدارة اكبر عندما أمر في يوم وفاة والده عام 1595 بخنق إخوته الذكور التسعة عشر الذين دفنوا في وقت واحد مع والدهم في جامع آيا صوفيا مقيما الفاتحة علي أرواحهم معا دون أن تفارق علائم الألم والحزن وجهه لما أقدم عليه من تضحية كبري في سبيل رفعة الإمبراطورية العتيدة!!
والسؤال: هل يوجد في كل مؤلفات ميكافيلي ما يبرر مثل هذه الأعمال التي حاول آخرون إيجاد تبريرات لأكثرها إن لم يكن لها كلها؟.
وقبل أن نأتي علي نهاية الموضوع من الضروري أن نشير إلى حقيقة مهمة أخرى لها علاقة به. ففي عصر ميكافيلي كانت البلدان الأوروبية تتوحد وتنهي مشاكلها علي طريق الوحدة، بينما كانت مشاكل ايطاليا تتعقد وتتأصل انقساماتها مما جعل من أمر الوحدة القومية شبحا لا يبدو حتى في الأفق البعيد. فحدة المشاكل نفسها فرضت علي شخص مثل ميكافيلي حدة في المعالجة والتعبير. ولم يكن هو المفكر الايطالي الوحيد الذي اختلف في طابع معالجاته للأمور عن نظائره الأوروبيين فان منطلقات كامبانيللا الاشتراكية المثالية كانت، مثلا، أكثر راديكالية من منطلقات رائد الفكر الاشتراكي المثالي توماس مور الانكليزي. وقد تميز موقف العالم والفيلسوف الايطالي جوردانو برونو أمام محاكم التفتيش بصلابة نادرة لم يضاهه فيها احد من العلماء الأوروبيين في عصر النهضة مثل كوبر نيكوس وغيره. فانه بعد ثماني سنوات من التعذيب الوحشي المتواصل جابه الحكام الذين أصدروا بحقه الموت بمثل هذه العبارة الخالدة: اغلب الظن أنكم تصدرون قراركم بخوف اكبر مما أتلقاه أنا !.
من كل ما سبق يبدو واضحا أن الكنيسة تجنت بقسوة علي ميكافيلي وأفكاره. فان الضربات المتلاحقة التي تلقتها الكنيسة في ذلك العصر أضفت علي آراء ميكافيلي الواقعية والصريحة طابعا اخطر من غيرها في نظر القوي المحافظة التي بذلت جهودا كبيرة لتشويهها. فالي جانب تحريم مؤلفاته وحرق نموذجه ألف عدد من رجال الدين كتبا في مهاجمة ميكافيلي انصبت علي تشويه سمعته وتحريف أفكاره.
ومن الغريب أن نذكر إن البروتستانت لم يكونوا اقل حماسة من الكاثوليك في معاداة نيكولو الذي اعتبروه جزويتيا متنكرا (46)، وذلك بغض النظر عن التطابق الكبير بين انتقادات البروتستانت وميكافيلي الموجهة للبابوية. وقد اتخذ البروتستانت مثل هذا الموقف بتأثير إجراءات معينة اتخذها حكام ميكافيليون ضدهم كما نبين ذلك فيما بعد. ويأتي كتاب ضد ميكافيلي الضخم (47) الذي ألفه الكالفني المتحمس جينتيه (Gentillete) بالفرنسية في العام 1576 علي رأس قائمة المؤلفات المبكرة التي أثرت علي سمعة ميكافيلي في الأقطار الأوروبية إلى حد كبير (48). ومنذ ذلك الوقت تقريبا ظهر مصطلح الميكافيلية لأول مرة وبدأ تداوله علي نطاق واسع بسرعة وفي مجالات فكرية وسياسية شتي، بما في ذلك الأعمال المسرحية الأوروبية.

3ـ المسرح الانكليزي:
لعب المسرح الانكليزي في العهد الاليزابيثي دورا كبيرا في تشويه سمعة ميكافيلي. فقد كون المجتمع الانكليزي أول فكرة له عن ميكافيلي وكتبه من خلال المؤلفات المعادية له والتي ركزت بشكل خاص علي آرائه الواردة في الأمير . فان كتاب جينتيه المذكور قد ترجم إلى الانكليزية في العام 1577، بينما ترجمت المطارحات إليها في العام 1636 و الأمير في العام 1640 (49). فكان من الطبيعي أن يسود الوسط الثقافي رأي غير واقعي عن نيكولو وأفكاره السياسية، مما وجد له انعكاسات واضحة في المسرح الانكليزي الذي بلغ الذروة في عهد الملكة إليزابيث الأولى. فهناك 395 إشارة سلبية إلى اسم ميكافيلي وأفكاره في الأدب الانكليزي الذي يعود إلى تلك المرحلة (50) والذي لا يزال يتمتع بتداول واسع في شتي اللغات. فان الشاعر والمسرحي المعروف كريستوفر مارلو (1564 ـ 1593) الذي كان يجمعه بميكافيلي نظرته إلى الكنيسة وتقييمه للحياة ومعاناته من الرقابة، قدم في مسرحيته يهودي مالطة صورة مشوهة عن نيكولو دون أن يطلع علي أفكاره مباشرة، فقد ترجم الأمير إلى الانكليزية بعد وفاته بحوالي نصف قرن. وهذا ما فعله أيضا المسرحي الكبير شكسبير (1564 ـ 1616) في مسرحيته نساء وندسور ، مع العلم بأن هناك تطابقا كبيرا بين أفكار شكسبير وميكافيلي، ولا سيما فيما يتعلق بتقييمهما للحكم المطلق، بل وفي نظرتهما إلى الإنسان.
ومما لا شك فيه إن آراء الانكليز السلبية عن ميكافيلي تركت بصمات واضحة علي الفكر السائد عنه، وبشكل خاص في أقطار الشرق التي احتكت مباشرة بالثقافة الانكليزية وعرفت النهضة عن طريقها إلى حد كبير، كما اطلعت عن طريق الانكليزية علي تاريخ الحكام الميكافيليين الأوروبيين أكثر من غيرها.

4ـ الميكافيليون:
لعب الحكام الميكافيليون دورا لا يقل خطورة عن دور الجزويت في تشويه سمعة نيكولو. فان هؤلاء كانوا يختارون ما يناسبهم من آراء ميكافيلي متجاهلين في الغالب ما وضع من ضوابط لتصرفات الحكام. فقد كانت الملكة الفرنسية الايطالية الأصل كاترين ميديتشي تعتبر الأمير كتابها المقدس دون أن تتمسك بالأفكار الواردة فيه مما يبدو واضحا من تصرفاتها الشخصية وسياستها العامة. إلا أن إعجابها بميكافيلي وتشجيعها لنشر الأمير كان كافيا لاعتبار ميكافيلي مسؤولا عن فعلتها النكراء عندما دبرت بأسلوب وضيع مذبحة عامة للبروتستانت الفرنسيين في ليلة احتفائهم بإحدى المناسبات الدينية (سان برثلوميو) عام 1572، مما أدى إلى أن يصب البروتستانت جام غضبهم علي ميكافيلي. فبعد ذلك بخمس سنوات فقط أصدر غاتييه كتابه ضد ميكافيلي الذي حمله فيه لا مسؤولية المذبحة المذكورة فحسب، بل اعتبره كذلك المسؤول الأول عن كل مساوئ ملوك فرنسا هنري الثاني وشارل التاسع وهنري الثالث. وربما كان ميكافيلي الضحية الوحيدة للكاثوليكية الذي لم يدافع عنه البروتستانت، بل اتهموه بكل بساطة بكونه معلم الملوك الكاثوليك .
كان الملك البروسي فردريك الكبير أشهر ميكافيلي حارب ميكافيلي بحماسة مصطنعة. فقبل مجيئه إلى الحكم تهجم علي ميكافيلي في رسائله التي كان يبعثها إلى المفكر الفرنسي فولتير وذلك جريا علي عادة ملوك وأمراء أوروبا الذين كانوا يحاولون إظهار أنفسهم في ثوب يتفق مع قيم عصر التنوير. وفي السنة التي تسنم فيها العرش ألف فرديرك كتابا سماه ضد ميكافيلي والذي وصف فيه نيكولو كـ مدافع عن الجريمة وكأحد خوارق الشيطان Cetavocatcrime Cetoraclede وقد ذكر فردريك في الكتاب نفسه إن ميكافيلي يستهدف من آرائه إقامة حكومة مستبدة، غادرة، جشعة وإثارة حروب غير عادلة . وإذا كان ميكافيلي لم يدع في أي من مؤلفاته إلى مثل هذه الأمور، فان فردريك طبق أكثر منها خلال سنوات حكمه الست والأربعين. وكما جاء في تعليق احد المؤرخين فان هذه الأمور بالذات هي التي جعلت من فردريك الكبير مشهورا فيما بعد . ومن الجدير بالذكر ان فردريك كان يشبه من أوجه كثيرة سيزار بورجيا، ولا سيما والده البابا الكسندر السادس. وقد بلغ استبداده في الحكم حد انه رفض أن يكون له وزراء كي لا تتحول رواتبهم، حسب ادعائه، إلى عبء علي كاهل الخزينة بينما لم يتوان هو عن الصرف من اجل تشييد أفخم قصر له ولحاشيته. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه العثور علي ثناء واحد علي حكم الفرد بين دفتي الأمير أو أي من مؤلفات نيكولو الأخرى، فان فردية فردريك في الحكم بلغت حدا كان فيه يشــــرف بنفسه علي جميع قضايا الدولة يساعده في ذلك سائس خيله الذي كان يقرأ رسائله ومكاتباته خلال ساعات الفجر القليلة ويأتي له في السابعة برزمة كبيرة تضم القضايا التي لا بد من إطلاع الملك عليها حسب رأيه. وإذا دعا ميكافيلي إلى الاهتمام بالجيش الوطني فانه لم يوص أبدا بأن يخصص أميره الأنموذج حوالي 80% من ميزانية الدولة لقضايا الحرب والدفاع كما فعل ذلك فردريك الكبير. وفي الواقع لا يوجد ابلغ من تعليق فولتير علي كتاب فردريك:
لو كان لدي ميكافيلي أمير حواري فانه كان ينصحه بأن يكون أول عمل يأتي به تأليف كتاب ضد ميكافيلي . وفعلا ان فردريك دشن شهرته بكتابه هذا، وقد يكون بذلك آخر من يسمح له التاريخ بأن يشوه صورة صادقة بهذا الشكل الفظ. ولكن لا ينفي ذلك حقيقة أن فردريك كان واحدا من الذين اشتركوا في بلورة تقليد غير واقعي عن مؤرخ النهضة الكبير.

5ـ التقليد:
أدت الحملة الواسعة ضد ميكافيلي في القرن السادس عشر إلى تكوين فكر سلبي عنه توارثته الأجيال بشكل موضوعي. فان معظم الذين يستخدمون مصطلح الميكافيلية لم يقرؤوا مؤلفات نيكولو، أو في أحسن الأحوال اقتصروا علي قراءة سطحية للأمير الذي لا يعتبر من اصغر مؤلفاته فحسب، بل انه يشكل نســــــبة ضئيلة جدا مما كتبه. ثم إن الأمير بحـــــاجة إلى دراسة جدية معمقة كعلم لا كدعاية ، بل أن هنالك من المؤرخين من يؤكد علي ضرورة قــــــراءة الأمير أكثر من مرة، الأولى سطحية، تدعو إلى كره الكاتب والثانية أدق تكشف نواياه الحقيقة .
لقد حال التقليد الأعمى والتجاهل المطلق لمؤلفات ميكافيلي دون وقوف الناس بأنفسهم علي ما كان يدعو إليه نيكولو بإخلاص. فإذا اقبل المرء علي قراءة الأمير ، ولا سيما المطارحات ، دون أن تكون لديه فكرة مسبقة جاهزة فانه يدرك بدون عناء إن ميكافيلي كان جمهوريا أكثر من أن يكون نصيرا لحكم الفرد الاستبدادي. فمنذ نعومة أظفاره ترعرع في جو تسوده الأفكار الجمهورية سواء في شوارع مدينته فلورنسة أو في رحاب داره حيث كان والده وجده من غلاة الداعين للجمهورية. ثم انه خدم نظام الجمهورية الفلورنسي بإخلاص لا متناه وعن إيمان مدرك مقيما إياه كـ حكومة الشعب . وعلمته تجارب التاريخ القديم إن قوة روما وعظمتها إنما جاءتا من نظامها الجمهوري أكثر من أي شيء آخر لأن الكفاءة، لا الوراثة، كانت تقرر في ظله من يستحق تبوؤ السلطة. لذا فان ميكافيلي كان يتوق إلى إحياء ذلك النظام، مما انعكس بشكل واضح في الأمير ، ولا سيما في المطارحات ، حتى أن روسو يصف الأمير ككتاب الجمهوريين. ولكن ربط ميكافيلي نجاح النظام الجمهوري بمستوي وعي الناس ومدي تمسكهم بتلابيب الأخلاق الفاضلة. أما من حيث الفساد والتسيب، كما كان عليه الأمر في معظم الأقطار الأوروبية وعلي رأسها ايطاليا، فان ميكافيلي كان يري من الضروري إقامة حكم مطلق يستطيع وضع نهاية حاسمة لكل أشكال الفوضى التي تجلب الدمار علي الشعب والوطن. وهو في رأيه ذلك لم يختلف عن معظم أعلام النهضة الآخرين ولم يخرج علي منطق التاريخ الذي حتم في مرحلته ظهور أنظمة حكم مطلقة توقف عليها التطور اللاحق للمجتمعات الأوروبية. وان عدم ظهور مثل ذلك النظام في ايطاليا يعد من أهم أسباب تخلفها وتمزقها وضعفها أمام الدول الأوروبية التي أقيمت فيها أنظمة مطلقة بنجاح. وكان الفاشيون والنازيون آخر من حاولوا تجاهل أفكار ميكافيلي الجمهورية وتجنبها.

6ـ الفاشية والنازية:
اهتم فاشيو ايطاليا ونازيو ألمانيا بميكافيلي من منطلقاتهم الضيقة وحاولوا علي ضوئها قولبة أفكاره من جديد ضمن إطار ضيق ومجرد بعد أن احتاج كسر الطوق السابق المفروض علي نيكولو إلى جهد كبير وزمن طويل. فقد قام عدد كبير من المؤلفين الألمان والطليان بتأليف كتب جديدة عن ميكافيلي أكدوا فيها بشكل مشوه علي آرائه في الحكم المطلق وتجاهلوا كل ما يتعلق بظروف الزمان والمكان. فان موسوليني اعتبر مذهب ميكافيلي بصدد الحكم الاستبدادي حيا اليوم بعد أربعة قرون . وبلغ تمجيد النازيين والفاشيين لميكافيلي حد أن هتلر كان يضع كتابه الأمير إلى جانبه في مكتبه، وحسب ما يقال فانه كان يعيد قراءة قسم منه قبل النوم في كل ليلة.
أما موسوليني فقد كتب رسالة عن الأمير نال بها درجة الدكتوراه. وهو كان يعتبر أن الأمير ملازم رجل الحكم .

النواقص:
لا شك في أن العوامل التي عرضناها كانت كافية لتشويه سمعة أي مفكر في العالم ولتحريف آرائه. ومن الجدير بالذكر أن الذين حاولوا النيل من ميكافيلي لم يضعوا اليد علي النواقص الحقيقة والجوانب الضعيفة في أفكاره. فان الرجل، كأي عالم آخر من أعلام النهضة وكابن عصره، لم يكن مصيبا في كل ما عالج، ولا سيما انه كان رائدا في طرقه لعدد من اشد المواضيع تعقدا. فقد توسل بما اعتبره شخصيا أسلوبا جديدا للإجابة عن أسئلة لم تثر عمليا من قبل .
كان ميكافيلي يمثل في آرائه الفكر البورجوازي النامي الطموح وقد مجد في كتاباته التجار والحرفيين المتمكنين من سكان المدن الايطالية الذين يصفهم بالشعب (Popolo) ودعا الأمير إلى الاهتمام بهم وتهيئة الأجواء التي من شأنها تطوير مصالحهم والترفيه عنهم. إلا أن البورجوازية الايطالية قد توقفت عن النمو بسرعة بعيد ميلادها المبكر وبدأت تعيش أزمة جدية قبل عهد ميكافيلي وخلاله لذا ظلت ضعيفة ولم تستطع أن تتحول إلى القوة الجديرة للاضطلاع بالمهام الجسيمة التي كانت تنتظرها في ظروف ايطاليا الصعبة. وكان من الطبيعي ان ينعكس ذلك في بعض من آراء ميكافيلي المتحمسة للنظام الملكي المطلق مما كان يعني في الواقع نوعا من التساؤم مع الفكر الإقطاعي، لأن ذلك النظام ظل يشكل، بالرغم من وقوفه ضد التسيب الإقطاعي، شكلا اعلي من النظام السياسي الإقطاعي. إلا أن ذلك النوع من الحكم لم يكن قد فقد في عهد ميكافيلي جوانبه الايجابية بعد. ولا يمكن تفسير ازدواجية ميكافيلي، وتنقله بين النظامين الجمهوري والمطلق إلا في ضوء ما تقدم. وهو يفسر لنا كذلك معاداته للديمقراطية وتخوفه من الجماهير التي تنجرف بسهولة مع المغامرات حسب رأيه وكان يصفها بـ السواد أو العوام (Plebs). وقد عبر عن موقف عدائي صريح نحوها من خلال تقييمه لبعض الانتفاضات الجماهيرية التي وقعت في ايطاليا. وبحكم ذلك فان ميكافيلي يتوجه في جميع مؤلفاته إلى الأمراء وأهل السلطة وأصدقائه من المفكرين، ويكتب لهم لا للجمهور.
وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقتين. الأولى أن الشعب الذي دافع عنه ميكافيلي بحماسة كان يشكل يومذاك حوالي ثلاثة آلاف ومأتي شخص من مجموع سكان فلورنسة البالغ عددهم تسعين ألف نسمة (51). والثانية أن ميكافيلي نفسه لم ينتم اجتماعيا إلى هؤلاء، إلا انه قدر دورهم الكبير في تطوير المجتمع، كما أثرت في موقفه منهم علاقته بسوديريني الذي كان ينتمي إلى البرجوازية الفلورنسية النامية.

البحث التاريخي:
كان ميكافيلي في رأيه عن سوء طوية البشر متشائما بشكل متطرف. فأنانية الفرد تتحكم في تصرفاته سلبا أو إيجابا، أينما كان ومتي ما كان. وهو وان كان قد اقر بأن من شأن تغيير النظام التأثير علي نفسية الفرد، إلا أن ذلك في رأيه ينجم عن القوانين الجديدة التي تستهدف عادة الحد من طموحات الناس.
خطا ميكافيلي خطوات مهمة في مجال البحث التاريخي، إلا انه يفتقر مع ذلك، إلى أفق تاريخي شامل. فقد عجز، مثلا، عن فهم التحول التاريخي من مرحلة إلى اخري. فان الماضي الذي كان يستنبط حقائقه من بطون كتب التاريخ كان يبدو له مشابها إلى حد كبير للحاضر الذي كان يعيشه هو ويعرفه. من هنا كان رأي ميكافيلي في التاريخ انه نوع من التجارب المتصلة التي من شأنها دفع الإنسان الحكيم إلى فهم الطبيعة البشرية بشكل أفضل مما لو اعتمد علي تجاربه الشخصية وذكرياته فقط.
لا تنتقص هذه الجوانب السلبية الواردة في أفكار ميكافيلي من أهميته كمفكر كبير، خاصة إذا قيمت بشكل صحيح في إطار زمانها ومكانها ودوافعها الأصلية لا الشكلية. فبالرغم من أن موقفه المتشائم من نفسية الفرد أمر غير قابل للتبرير، إلا انه مع ذلك لا يمكنه نسخ حقيقة أن ميكافيلي كان يستهدف خلق الفرد الايطالي الجديد الأقرب إلى التكامل. كما انه بالرغم من موقفه السلبي من الجماهير، ولا سيما في الأمير ، فقد قدم عنها أفكارا مهمة وجديدة بالنسبة لعصرها في المطارحات . ففي رأيه أن العامة والأمراء متشابهون تمام الشبه، وإذا كان من واجبنا أن نؤثر احدهما علي الأخر، فلا ريب في أن الإيثار يتجه إلى العامة وهذا يتوقف علي ما يبدونه من درجة احترام كثرت أو قلت، للقوانين التي يعيش الفريقان في ظلها . ومن أقواله أيضا: ولا ريب في أن هناك مبررا قويا حمل الناس علي تشبيه صوت الشعب بصوت الله، وذلك لأن الرأي العام يكون دقيقا إلى حد كبير في دلالاته وإشاراته، مما يرمز إلى أن قوة خفية توحي إلى الشعب مقدما بما سيصيبه من شر أو خير . ومن أقواله كذلك: ودللت الوقائع أيضا علي أن العامة أحسن قدرة علي التمييز من الأمير في موضوع اختيار الحكام إذ لا يمكن إقناع الشعب مطلقا، بأن من الخير أن يختار لأحد هذه المناصب رجلا عرفت عنه الخلاعة والعادات الفاسدة، بينما قد يقتنع الأمير، وغالبا ما يقتنع بإجراء مثل هذا التعيين (المطارحات، الكتاب الأول ـ 52).
وفي كل الأحوال من الضروري إن نشير هنا إلى انه عند إصدار الحكم علي نواقص ميكافيلي فانه لا يصح، كما لاحظ روتينبورغ عن حق، النظر إلى أفكاره السياسية والاجتماعية من علياء القرن العشرين، بل من خلال أسوار قلاع القرن السادس عشر الإقطاعية القائمة بعد من وجهة نظر اجتماعية (53).
فان ميكافيلي كله مجبول من طينة عصره، وعلمه السياسي يمثل فلسفة زمانه الذي يسعى إلى تنظيم الملكيات الوطنية المطلقة (54).
وأخيرا فان نواقص ميكافيلي المذكورة، وغيرها، تبقي في الواقع غير ملموسة أو بالأحرى طبيعية إلى جانب النواحي الايجابية الكثيرة في منطلقاته الفكرية العميقة.

ميكافيلي والميكافيلية (2)
وفي هذا المجال أيضا اثبت ميكافيلي عمقا اكبر من غيره. فقد لعبت آراؤه دورا مهما في تطوير الدراسات التاريخية ونظرياتها، إذ تخطي في بحوثه حدود التفسير البراغماتي للأحداث في وقت مبكر، وبدأ ينظر إلى الدولة وقوانينها نظرة واقعية نابعة من التجربة والتحليل لا من اللاهوت ونظرية الحق الإلهي في الحكم، وآمن بحتمية الأحداث التاريخية وبالترابط فيما بينها بغض النظر عن إرادة المشــــتركين فيها.
ففي كتابه الضخم تاريخ فلورنسة يتتبع النضال بين الجماهير والارستقراطية علي طول مسيرة تاريخ ايطاليا. ومن هنا، أي من خلال بحثه عن العوامل المحركة للأحداث التاريخية بغض النظر عن إرادة الأفراد الصرفة، تخطي ميكافيلي مؤرخي عصر النهضة وتقدم عليهم. ويكتسب هذا الأمر أهمية اكبر إذا علمنا أن ميكافيلـــــي كتب التاريخ كسياسي قبل أن يكون مؤرخا، فانه يبتــــغي من التاريخ خدمة السياسة كعلم، لذا لم يهتم بسرد الأحداث إلا ليستنبط منها الدروس والأفكار (55).
لميكافيلي آراء سياسية واجتماعية قيمة أخرى عن القوانين والديمقراطية وعن السياسي في انتصاره وهزيمته ودور الحظ في تقرير مصير الأحداث والأشخاص وما إلى ذلك. وهو في كل معالجاته يحاول الغوص فيما وراء الأسرار وغير المرئيات وغالبا ما يمس القاع فيأتي منه بالجديد والجيد. فهل من تعبير أعمق وأدق وأكثر واقعية عندما يتحدث في فن الحرب عن الانتصار والهزيمة فيقول: يمحو النصر آثار أكثر الأعمال فشلا، فيما تجهض الهزيمة أكثر الخطط تنظيما ؟.
هكذا تميز نيكولو عن غيره في الكثير. وهكذا كانت مأثرته الأخيرة في الحياة التي هي ابلغ تجربة خاضها ميكافيلي بنجاح مما جعلها ورقة كاشفة أصيلة لتقييمه لم تجد، بكل أسف، ما يستحق من اهتمام المؤرخين (56).

الموضوع الرابع
التجربة
تخطي ميكافيلي الخامسة والخمسين من عمره عندما تعرضت بلاده إلى غزوة أجنبية جديدة. ففي العشرينيات من القرن السادس عشر دخلت الحروب (1494 ـ 1559) التي جرت بين اسبانيا وفرنسا من اجل السيطرة علي ايطاليا، دخلت مرحلة خطيرة بظهور الملك الاسباني الطموح شارل الأول الذي كان يرنو إلى إقامة إمبراطورية مسيحية موحدة. واضطر البابا والفلورنسيون للتحالف مع الفرنســــــيين لدرء الخطر الداهم. ولكن الفرنسيين اندحروا أمام الجيش الاسباني في المعركة الحاسمة التي جرت بين الطرفين في شباط (فبراير) 1525 ووقع الملك الفرنسي فرانسوا الأول في أسر القوات الاسبانية التي أصبحت الأرض الايطالية مفتوحة أمامها. وفي مثل هذا الوضع الحرج اختار القليل من اخلص الوطنيين الطليان سبيل المقاومة للحفاظ علي كرامة وطنهم المهدد، وقد كان ميكافيلي واحدا من ابرز هؤلاء الأبطال.
تشهد مواقف ميكافيلي المتشعبة في تلك الأيام الصعبة علي وطنية صادقة وشجاعة نادرة. فعندما بدأ التردد يجد طريقه إلى نفوس الأكثرية، بما في ذلك شخص البابا، كان ميكافيلي يتوقد حماسة ويصر علي المقاومة ويحرض البابا كليمنت السابع للاضطلاع بالمهمة المشرفة، وبدأ يتنقل من مكان إلى آخر ويكتب الرسائل تلو الرسائل، ويتصل بأهل السلطة ويحاول إقناعهم دون أن يمل أو تقعده آثار مرضه، فقد نسي كل شيء وظل يفكر، كما ذكر بنفسه، في أمر واحد فقط ـ إنقاذ البلاد وضمان حريتها!. وآنذاك قدم مشروعين إلى البابا احدهما يخص تحصين فلورنسة والثاني يستهدف تأسيس جيش شعبي في توسكانيا والمناطق البابوية.
كلما دنا الخطر أكثر، ازداد نيكولو نشاطا وقلقا. فبدأ يتصل بأصدقائه، ويستأنس بآراء المفكرين، كما اشترك بحماسة بالغة في تقوية استحكامات فلورنسة دون أن يفتر بسبب الموقف المتخاذل للدعاة السابقين. ويومذاك عندما كانت الأكثرية تربط الأمور، تهربا، بالموقف الفرنسي، عبر ميكافيلي عن رأيه صراحة عندما قال اعتقد أن من واجبنا التسلح دون ادني تأخير وعدم انتظار ما تتخذه فرنسا من قرار (57).
لم يكتف نيكولو بكل ذلك، بل وضع خطة عمل تتفق مع ما يتطلبه الزمن من اتخاذ قرارات شجاعة، غير اعتيادية وغريبة (58). وهنا بحث بإخلاص ودون ادني تملق عن الأمير الجديد الجدير بأن يأخذ علي عاتقه المهمة الجليلة والصعبة التي من شأنها أن تبين للأصدقاء والأعداء معا أن ايطاليا علي أهبة الاستعداد للدفاع عن كرامتها. وقد اعترف البابا شخصيا بشجاعة خطة ميكافيلي، إلا أن تردده وأسبابا أخري غير ذلك حالت دون الإقدام علي اتخاذ القرار الحاسم.
لكن كل ذلك لم يفت في عضد ابن ايطاليا البار، فان الوطن في خطر و عليه أن يقدم له ذاته كاملا . إلا أن غباء الحكام وترددهم وقصر نظرهم قد حال دون الإقدام، والعدو الاسباني يستغل الفرصة فيتقدم في الأرض الايطالية وتقترب طلائعه من فلورنسة ولكن دون أن يدخل ذلك الرعب في نفس نيكولو المقدام الذي لم يتراجع، بل بدأ بوضع خطة جريئة جديدة تتلخص في الهجوم السريع علي نابولي وأسر نائب الملك الاسباني هناك وتجريد أتباعه وأنصاره من السلاح والضغط من هناك علي الأسبان. إلا أن البابا رفض هذا المشروع كذلك ليدفع الثمن فيما بعد غاليا، فقد دخل غريمه بومبيو كالونا، روما بمساعدة الجنود الأسبان الذين نهبوا الفاتيكان فلم يتمكن كليمنت السابع من انقاد جلده إلا بشق الأنفس. فجاء ذلك بمثابة الخطوة الأخيرة التي مهدت الطريق للهزيمة الساحقة في العام التالي.
مرة أخرى لم يتراجع ميكافيلي، فقد نسي الماضي الأليم والشيخوخة والمرض والأسرة وبدأ يتردد بحماسة الشباب بين فلورنسة والجبهة عندما كان الآخرون يتراجعون ويعرضون أنفسهم في سوق نخاسة رخيصة. انه يتصل ويحث ويحرر الرسائل إلى أصدقائه وأهل الرأي، وهو في كل ذلك لم يغير كلمته: الوطن في خطر وعليه أن يقدم ذاته كاملا له، النضال حتى النهاية وعدم الرضوخ!! إن العاصفة تهب هوجاء، ولكن علي السفينة أن تمخر في عباب اليم ـ بهذا الأسلوب الرائع عبر نيكولو عن الواقع وعن موقفه عندما كانت جيوش العدو تقترب وتقترب (59). وإذا لم يبق من مخرج أمام الطليان، فعليهم ـ كما كان يؤكد ـ بالسلم مرفوعي الرأس لا بالاستسلام متخاذلين ـ وهنا أيضا لا بد من الأمير الجديد الذي يعرف كيف يختار بين الحرب والسلم. من هذا يبدو واضحا أن ميكافيلي جمع، كأي مفكر أصيل، بين النظرية والتطبيق. فان جميع أعماله في أيام التجربة القاسية تنطبق مع أهم ما ورد في القسم الأخير من الأمير حيث التحريض الحار لتحرير ايطاليا من البرابرة والأمل المخلص في أن يختار الله شخصا لإنقاذها (الأمير، الباب السادس والعشرون).
هكذا كان ميكافيلي، وهكذا بقي ميكافيلي. فعندما كان أقرانه يقضون لياليهم حول موائد الخمر الدافئة و يبنون و يهدمون في الهواء ويتشككون في مواقف اخلص الناس وأشرفهم، كان ميكافيلي يجابه الموت ويحرق الفكر ويجهد النفس في سبيل ايطاليا لأنه كان صادقا في حبه لها مخلصا. فآنذاك تفتقت قريحته العبقرية عن قولته المشهورة: حبي لروحي دون حبي لوطني! .
ذهبت نشاطات الرسول الأعزل ، والذين كانوا في مستوي إخلاصه، هباء. استسلمت روما ولم يبق أمام نيكولو بعد أن أدى الواجب مخلصا، سوي العودة إلى قريته ليقضي الأيام الأخيرة من عمره، ولكن ليثبت بموقفه الثابت والصريح والبعيد عن المساومة والتزلف والادعاء وبنشاطاته الخارقة في أصعب الظروف وأشقها، ليثبت مرة أخرى مــــن هو نيكــــولو دي بيرناردو ميكافيلي!.
وماذا عن موقف التوافه من حساد ميكافيلي الذين كانوا يراقبون الوضع من فوق التل لينضموا إلى المنتصر في الوقت المناسب؟. أنهم، وما كان بمستطاعهم أن يفعلوا غير ذلك، أثاروا شكوكا مصطنعة حول مواقف هذا الوطني الأصيل وجهدوا بروح انتهازية وضيعة لإبعاده عن المنصب الذي رشح له قبل الأحداث الأخيرة.
يبقي سؤال آخر يفرض نفسه بإلحاح: إذا كان هذا ديدن ميكافيلي وعبقريته، فكيف يجوز أن نقتنع بأن الموضوعـــــيين من خلق اللـــه لم يفهموه ولم يقيموه كما يجب؟ ولكن هل كان الأمر هكذا؟

التقييم الأرفع:
من أروع قوانين الحياة أن الحقيقة لا يمكن أن تحجب حتى النهاية. وهكذا كان الأمر مع ميكافيلي. فان جميع الجهود والتحريفات ظلت عاجزة منذ البداية عن حجب حقيقة هذا المفكر عن أعين الفلاسفة والعلماء والموضوعيين من الناس الذين قرؤوا له. وفي الواقع قلما تناول مفكر عظيم اسم ميكافيلي وأفكاره إلا بالثناء والمديح. فان الفيلسوف والعالم ورجل الدولة الانكليزي البارز فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626) درس مؤلفات ميكافيلي بإمعان وتأثر في طريقته الاستقرائية بما ورد فيها من آراء جديدة كليا في بابها (60). وكان بيكون أول من أدرك أن ميكافيلي تناول الأشخاص كما هم في الواقع لا كما يجب أن يكونوا في الخيال، فكتب بهذا الصدد يقول:
يجب علينا أن نكون شاكرين لميكافيلي ومن هم علي شاكلته من الكتاب الذين رسموا بصراحة ودون تصنع ما يفعله الناس عادة وليس ما عليهم أن يفعلوه (61).
وفي عنفوان الحملة المضادة لميكافيلي (62) تطرق عدد من المؤلفين إلى أفكاره وقيموها عاليا. فقد عرض لييسموس في مؤلفه الكتب السياسية الذي نشره عام 1590، عرض أفكار ميكافيلي حول موقع الدين في السياسة والدولة. وفي العام 1613 كتب ك. شوبييه عن آراء ميكافيلي حول ضرورة الفصل بين قضايا السياسة والفضيلة. وبعده بعقدين تطرق جبرائيل نودييه إلى الأسلوب السياسي لدي ميكافيلي وبيّن انه لم يبحث عن أمير إرهابي، بل عن حاكم ناجح من نوع جديد يحتاجه الوطن.
ويأتي الفيلسوف والرياضي الفرنسي المعروف ديكارت (1596 ـ 1650) من بين المفكرين الأوائل الذين تأثروا بميكافيلي. فانه صاغ رأيه حول الأساليب العادلة للحاكم في النظام المطلق المتنور بتأثير من أفكار ميكافيلي. وقد توصل الأخير قبل الفيلسوف الانكليزي توماس هوبس (1588 ـ 1679) بفترة طويلة إلى تحديد دور أنانية الفرد وطموحاته ورغبته في الحفاظ علي ذاته، في إقامة الحكومات مما ترك أثره علي فكر الفيلسوف الانكليزي. وجون لوك (1632 ـ 1704) فيلسوف انكليزي آخر تأثر بدوره ببعض من أفكار ميكافيلي. وإذا تذكرنا موقف الأدب الانكليزي من نيكولو وتشويهه سمعته علي نطاق واسع في انكلترا، فهمنا الأهمية الكبيرة لتقييم هؤلاء الفلاسفة الذين وضعوا اليد بثاقب نظرهم علي روح مؤلفات ميكافيلي وأهدافه البعيدة من كل ما ورد فيها.
أشاد بميكافيلي ابرز فلاسفة ومفكري عصر التنوير والتحرك القومي الأوروبي، منهم الكاتب والمؤرخ والفيلسوف الفرنسي فولتير (1694 ـ 1778) والانسكلوبيدي المعروف ديدور (1713 ـ 1784) والفيلسوف والكاتب والموسيقي الفرنسي جان جاك روسو (1712 ـ 1778) والشاعر والمفكر والرائد القومي الألماني غوته (1749 ـ 1820) كما شهد له هيغل بالعبقرية. وان الأول، الذي كان يعرف كيف يرضي الملوك، حرض فردريك الكبير علي تأليف كتابه عن ميكافيلي بعد أن أشاد به في رسائله الخاصة له، وذلك لأنه أدرك ما يمكن لمثل ذلك الكتاب أن يجلب من شهرة لصديقه الملك الألماني. أما روسو فقد أعطى تقييما عميقا لميكافيلي عندما ذكر عنه في اشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي (الجزء الثالث، الفصل السادس) ما نصه:
كان ميكافيلي يتظاهر بإعطاء دروس للملوك بينما كان يعطي دروسا عظيمة للشعوب. أن الأمير كتاب الجمهوريين وما اختاره بطله المكروه يدل بوضوح علي نية الكاتب الخفية، ثم إن منع بلاط روما لنشر كتابه له دلالته، فان المؤلف يصف هذا البلاط دون لبس .
قيم مؤسسا الاشتراكية العلمية كارل ماركس وفردريك انجلس أفكار ميكافيلي عاليا أكثر من مرة. فان ماركس قرأ مؤلفاته بامعان، ولا سيما المطارحات التي اقتبس منها معلومات كثيرة فيما يتعلق بوضـــع النبلاء في فلورنسة والبندقية (62). وفي رسالة له إلى انجلس سمي الأمير بـ المؤلف الرفيع ذلك لأن صاحبه واحد من الذين بدأوا ينظرون إلى الدولة بعين إنسان ويستخلصون قوانينها من العقل والتجربة، لا من اللاهوت .
أما انجلس فقد أطلق علي أربعة من ابرز أعلام النهضة هم الرسام الايطالي الخالد ليوناردو دافنيشي والمصلح الديني الكبير مارتن لوثر وابرز رسامي ألمانيا في ذلك العصر البريخت دورير (Durer) مع ميكافيلي لقب عمالقة النهضة التي احتاجت للعمالقة وخلقت العمالقة . كما أعجب كثيرا بكتابه فن الحرب الذي سماه بـ مارسيليز القرن السادس عشر فقد كان ميكافيلي في نظره أول كاتب حربي في العصر الحديث جدير بالذكر .
وفي عصرنا أشاد العشرات، بل المئات من المفكرين والمؤرخين الغربيين بأفكار ميكافيلي وكرسوا لدراستها العديد من البحوث والرسائل العلمية نعود الي تفاصيل بعضها بعد عرض موجز للسياسة الذين تأثروا بمؤلفات ميكافيلي مع بعض المواضيع الأخرى.

الهوامش
(1) كان ميكافيلي يبلغ من العمر12 عاما عندما قرأ اول كتاب في التاريخ. وفي وقت مبكر قرأ خطب شيشرون ومؤلفات ارسطو وافلاطون وغيرهم من الاقدمين.
(2) R. Ridolfi, The Life of Niccolo Machiavelli, translated from the Italian by G. Grayson, Chicago, 1963,p.3
(3) أ. ك جيفيليكوف، نيكولو ميكافيلي (1469 ـ 1527)، موسكو ـ ليننغراد، باللغة الروسية، ص 24.
(4) R. Ridolfi, Op. Cit, . 9 - 12, F. Chabod, Machiavelli and the Renaiance, translated from the Italian by D. Moore, Cambridge, 1960, . 7 -9
ف. روتينبورغ، عمالقة النهضة، باللغة الروسية، ليننغراد 1976، ص 120-121.
(5) F. Chabod, Op. Cit, . 4, 126, 134 -135.
R.Ridolfi, Op. Cit, .145-156 (6)
(7) أ. ك. جيفيليكوف، المصدر السابق، ص 34.
(8) نفس المصدر، ص 32.
(10) ف. روتينبورغ، المصدر السابق، ص 120.
(11) راجع:
H. Buerfield, the Statecraft of Machiavelli, London, 1960, p. 125
(12) نعود الي تفاصيل مؤلف ميكافيلي الضخم المطارحات او المساجلات في مكان آخر من هذا البحث.
(13) كانت صناعة الاقمشة تعتبر يومذاك من اربح المهن لا في ايطاليا فحسب، بل علي صعيد كل القارة الاوروبية.
(14) ورد ذلك في رسالة له بعثها الي صديقه فيتوري راجع:
(F. Chabod, Op. Cit, . 131-132)
(15) أ. ك. جيفيليكوف، المصدر السابق، ص 19
(16) R. Ridolfi, Op. Cit, p.4
(17)F. Chabod, Op.Cit,p.126
(18) اعتمدنا علي التراجم العربية والروسية والانكليزية لكتاب الامير .
(19) راجع: الين فيدرين، ميكافيلي، ترجمة اميرة الزين، بيروت، بلا، ص 32-33
ٍR. Palmer and J. Colton, A history of the Modern World, third edition, New York, 1965,p.55
(20) ذكر ميكافيلي قوله الشهير هذا تعليقا علي هجوم الفرنسيين علي ايطاليا وتقدمهم السريع فيها في العام 1499 (راجع: تاريخ ايطاليا ، باللغة الروسية، الجزء الأول، تحت اشراف الاكاديمي س.د. سكازكينه، موسكو، 1970، ص 455).
(21) اعتمدت بالاساس علي الترجمة العربية لهذا الكتاب (راجع: مطارحات ميكافيلي تعريب خيري حماد، بيروت، 1962).
(22) هو العمل الوحيد الذي نشر في حياته في العام 1521.
(23) H. Buerfield, Op. Cit, . 114-115
(24) للتفصيل راجع: و. ل. فاينشتين، علم التاريخ الاوروبي الغربي في العصر الوسيط، باللغة الروسية، موسكو ـ ليننغراد، 1964، ص 286
(25) لم يقتصر التشابه بين ميكافيلي وهؤلاء، وغيرهم من اعلام النهضة، علي الموقف تجاه الكنيسة. فان صياغة ميكافيلي لطبيعة الدولة لا تختلف الا جزئيا عن صياغات ارازمي ومور وكلود دي سيسيل وغيرهم (للتفصيل راجع:
"Action and Conviction in Medern", . 26-30)
(26) كان الايطاليون يطلقون علي غيرهم من الشعوب الاوروبية اسم البربر كناية عن تخلفهم بالقياس معهم.
(27) في الكوميديا الالهية .
(28) في كتاباته كان بترارك يستعين في احيان كثيرة بأقوال الاقدمين من امثال شيشرون وغيره.
(29) الآباء اليسوعيون.
(30) W. Lewis, The Lion and the Fox, The role of the hero in the plays of Shakespeare, London, 1966, p.69.
و. ل. فاينشتين، المصدر السابق، ص 285 ـ 286.
(31) و. ل. فاينشتين، المصدر السابق، ص 279.
(32) H. Buerfield, Op. Cit., p. 97
(33) راجع علي سبيل المثال: الين فيدين، المصدر السابق، ص 32،
(34) J. Plamenatz، Op. Cit, p.13 "The Prince" p. 20 (the Introduction).
(35) مقتبس من: ف. روتينبورغ، المصدر السابق، ص 122.
(36) مدينة فرنسية تقع الي الجنوب الشرقي من باريس وهي كانت مقرا للبلاط الملكي.
(37) مقتبس من: ف روتينبورغ، المصدر السابق، ص 122.
(38) بورجيه اسرة نبيلة معروفة تنتمي الي اصل ارغوني اسباني انتقلت الي ايطاليا في القرن الخامس عشر. برزت هذه الاسرة بفضل الفونسو بورجيه الذي اصبح بابا في العام 1455. وقد اصبح الكسندر السادس، وهو من اقربائه، بابا خلال الفترة 1492ـ 1503.
(39) H. Buerfield, Op. Cit., . 131-132, "The Prince", .22-23 (the Introduction).
(40) تاريخ ايطاليا (المصدر المذكور سابقا)، ص 335-336
R Rodilfo, Op. Cit., . 53-64, J. Plamenatz, Op. Cit., p.14
(41) F. Chabod, Op. Cit., . 94-95, R. Ridolfi Op. Cit., p.9
(42) الين فيدرين، المصدر السابق، ص 62.
(43) J. Plamenatz, Op. Cit., p.33
(44) لهذا الرأي اهميته الكبيرة، لأن ميكافيلي كان يعتبر الرومان النموذج الامثل الذين يجب علي الطليان ان يحذوا حذوهم.
(45) F. Chabod, Op. Cit., . 140,142, F. Gilbert, Op.Cit.,. 176-177.
(46) J. Plamenatz, Op. Cit., p. 42
(47) S. H. Sabine, A history of Political theory, New York, 1950,. 337,338
(48) الاخوية اليسوعية او الاباء اليسوعيون .
(49) R. Wei, The spread of Italian Humanism, London, 1964, p. 84.
(50) العنوان الكامل للكتاب هو:
"Discours sur les Moyens de bien gouverner et maintenir en bonne paix un Royaume ou autre Principaute- Contre Nicholas Machiavel", Florentin, 1576.
(51) "The Civilization of the Renaiance in Italy", An Eay by J. Burckhardt, New - York and Toronto, p. 93.
(52) ا. ك. جيفيلكوف، المصدر السابق، ص 67.
(53) ف. روتينبورغ، المصدر السابق، ص 122 ـ 133.
(54) انطونيو غرامشي، الامير الحديث. قضايا علم السياسة في الماركسية، ترجمة زاهي شرقان وقيس الشامي، بيروت، 1970، ص 35.
(55) R. Ridolfi, Op. Cit, . 196 - 197.
(56) من بين المصادر العديدة التي رجعت اليها لاعداد هذا البحث فان جيفيليكوف وحده الذي اولي هذا الموضوع المهم ما يستحق من عناية.
(57) مقتبس من نفس المصدر، ص 106.
(58) نفس المصدر، ص 107.
(59) القول مقتبس من نفس المصدر، ص 111.
(60) يعتبــــــرالعديد من المؤرخـــين ميكافيللي، لا فرانسيس بيكون، مبتكرا للطريقة الاستقرائية.
(61) مقتبس من: ف. ي. روتينبورغ، المصدر السابق، ص 111.
(62) بالرغم من تلك الحملة فقد ظل السياسيون يتداولون الامير علي نطاق واسع (راجع: C. Hayes, Modern Europe to 1870, New York;, 1959, p. 26.
___________________________

*******

نشر:
القدس العربي

[/hide]

دمتم بود
سبحان الله وبحمده

عبير الزهور

:: عضو ألماسي ::

#2

Silence

:: عضو مميز ::

#3
يعطييك الف عافيه

karm

:: عضو جديد ::

#4
شكرا لكم وجزاكم الله خيرا

تولين

:: عضو جديد ::

#5
الله يجزاك الف خير

هجر الحزين

:: عضو جديد ::

#6



مع الشكر والتقدير

فارس القمة

:: عضو جديد ::

#7
مشكوووووووووووووووووووووووور

حبيبها

:: عضو فعال ::

#8
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية

شلاؤيثبلا

:: عضو جديد ::

#9
مشكورررررررررر

بحث عن الميكافيلي

:: عضو جديد ::

#10
شككككككرررررررررررا من اعماق اعماق اعماق قلبببببببببببي
إضافة رد


يشاهدون الموضوع : 1 ( عضو0 زائر 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع